لا ينبغي أن يكون العطاء منة ، لأن صفة العطاء وداعيته هما أصلا لله ، والله سبحانه القائل في موضع آخر : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) [الحشر : ٩] ، فالوقاية من الشح هي لله وما للعبد إلا الكسب.
والحقيقة أن كل الصفات الجمالية التي يتصف بها العبد هي من عين المنة ، أي من صاحب المنة الحقيقي وهو الله ، والمحسنون مدركون هذه الحقيقة ، ولهذا يأتون ما يأتون من أعمال حسنة وهم خائفون ألا تقبل منهم ، والآية تشير إلى داء العجب الذي هو سرطان يأتي على معظم الأعمال الصالحة التي يأتيها المصابون بهذا المرض ... والله لا يقبل إلا العمل الصالح خالصا لوجهه ، أي بتذكر من له المنة والداعية والفعل ، وأن ليس للعبد إلا الوسيلة والمحل.
٦٢ ـ (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢))
[المؤمنون : ٦٢]
وسع النفس عينها ، وعينها صفتها ، وصفتها ما وسمت أزلا من سعادة أو شقاوة ، وهذه الحقيقة الوجودية العلمية هي التي تظهر قوله تعالى في الحديث القدسي : (ورحمتي سبقت غضبي) ، وعلى هذه القاعدة رفعت الصوفية قواعدهم من الرحمة العامة باعتبار أن الله رحمن رحيم ، وأن رحمته شاملة ، والسبب كما ذكرنا علمي ، إذ لا يعقل أن يسم سبحانه نفسا بالشقاوة ثم يطالبها بغير ما وسمت.
والكتاب الناطق بالحق سجل النفس الكلية المسمى اللوح المحفوظ حيث تسجل فيه النفوس الجزئية وأسماؤها وصفاتها ، فلا تكلف نفس إلا صفتها ، ولهذا ختمت بالقول : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
٦٣ ـ (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣))
[المؤمنون : ٦٣]
الغمرة الجهل ، وكل إنسان يأتي عملا يحسبه له خيرا كان أم شرا ، ولله الأمر من قبل ومن خلال ومن بعد ، لا إله إلا هو.
٦٤ ، ٦٦ ـ (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦))
[المؤمنون : ٦٤ ، ٦٦]
العذاب الحجاب ، وكل من لم يتعرف ربه هو محجوب ، ولهذا وصف المعذبون بأنهم يجأرون أي يضجون ، والسبب الحجاب نفسه ، ولو كشف لهؤلاء حجابهم لرأوا الحقيقة في عين اليقين ، فاستراحوا وصاروا إلى جنة النعيم.