فأنت ترى أن العارفين عارفون بحقيقة قوله تعالى في الحديث القدسي ورحمتي سبقت غضبي ، وإن هذا القول صادر عن حقيقة جمعية هي الحاكمة ، ولهذا اقتضى الأمر الرحمة والعفو.
وبسبب هذه الرؤيا النبوية النورية احتلت الأنبياء والوارثون مكانتهم الأخلاقية ، وكانوا مثلا يحتذى في الصفح والعفو ، ولما وقف المشركون أمام النبي بعد فتح مكة ، وكان فيهم هند بنت أبي سفيان التي قتلت حمزة عم الرسول ، وشقت بطنه ، وأكلت كبده انتقاما لأقربائها الذين قتلوا في بدر ، فقال لها النبي : أهند آكلة الكبود؟ فأحابت : أنبي وحقود؟ فهند ، وهي المشركة ، أدركت أن النبوة والحقد صفتان لا تلتقيان ، ولهذا ذكرت النبي بصفة من صفات النبوة ، وكان جواب النبي : اذهبوا فأنتم الطلقاء.
فما يقع في هذا العالم من خير وشر يقع بإذن الله وبمشيئته ، وهو في اللوح مسطر مسبقا ومحفوظ ، والحقيقة الإلهية نفسها هي التي قضت التضاد والتناقض ، فكان أناس حربا على أناس ، وكان آخرون عونا لآخرين ، وقال سبحانه : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).
فمن رأى هذه الرؤيا البصيرية أدرك ووعى الحقيقة التناقضية فتحلى بالعفو والحلم والصفح الجميل ، ولم يغفل عمن هو الفاعل الحقيقي والمحرك للأحداث ، سبحانه لو شاء لما خلق الشيطان ، وجعل في قلب إبليس الداعية للعصيان ، ولظل آدم وزوجه في الجنة ونسلهما يحيون منعمين ، ولكنها حكمة عليا ، سافرة خافية قضت بما كان.
فمن ظلم وانتصر لظلمه فلينتصر بالمعروف ، ومن قدر على العفو فإن الله هو العفو الغفور ، ولا تبخس نفس حقها إن عفت وحلمت وأصلحت ذات البين وتعالت فوق حدود الشنآن والانتقام. فتقربت إلى الله بتحليها بصفاته ، فتقبلها ربها قبولا حسنا ، ورفع الحجاب المضروب بينه وبينها ، وقربها نجيا ، فعرفت مدخل الأمر ومخرجه ، فكانت من الذين دخلوا في رحمة الله ، ونجت من العذاب ، وأخرجت من النار ، فكانت النار عليها بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم وملة إبراهيم
٤٩ ، ٥٠ ـ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))
[الشورى : ٤٩ ، ٥٠]
ظهر الآيتين ما يكون للآباء من نسل من إناث أو ذكور ، والله سبحانه هو حافظ النسبة الخلقية التي ما تزال أعناق العلماء لها خانعين ، ولكم حاولت العلماء جاهدين معرفة السر