ومحدثون على أن هذه الحاسة الخلاقة هي التي جعلت من الإنسان إنسانا متألها ، علم ما لم يعلم ، وقال سبحانه : (خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٣ ، ٤].
والفهم ما يفهم من ظاهر الحس ، فهو استخلاص المعقول من المحسوس والوعي نور يشع في هذا الفهم ، فإذا الإنسان قد وعى فجأة شيئا جديدا ما كان يخطر له ببال ، ومن هذا الوعي إدراك أن الله موجود ، وأنه حضور ، وأنه قريب ، وأنه أزلي أبدي سرمدي عال على الزمان والمكان ، لا يناله التطور ، ولا يخضع لقانون السببية بل هو ذلك القانون وهو مسبب الأسباب ، خارج على فلك الصيرورة التي هي من بديع صنعه ... هو البحر ونحن القطر ، منه وفيه وإليه وبه لا إله إلا هو ، والذين يعتزون بغير الله يجدون أنفسهم في صحراء سراب يباب قفر بلقع ، لا يجدون من شيء يقفون عليه سوى المصادفة والعبث والضياع والجنون ... وقد يعتمدون قانون الغاب ، وكم غاب عنهم من أسرار قانون الغاب نفسه.
١٨ ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨))
[المؤمنون : ١٨]
أنزل العلم الإلهي بقدر ، فلكل اسم حظه من العلم ، ولهذا تفاوتت العلماء في مقدار نيلهم العلم ، فمنهم المحقق ، ومنهم العارف ، ومنهم العالم ، ومنهم الفقيه المشرع ، وهذا على مستوى علوم الدين ، أما على مستوى علوم الدنيا فالعلم الإلهي تناول كل شيء وشمل حتى علوم علماء الطبيعة والطب والنفس والمجتمع ، فما من عالم إلا وقد تعين اسم الله العليم به ، قد خصص له ربه مقدارا وضربا من العلم يحصله ، ولهذا يكون العالم عالما وهو في بطن أمه ، وهذا يذكر بالمثل الذي ضربه أرسطو بذرة البلوط التي ستصير في المستقبل شجرة بلوط.
وقوله سبحانه : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) يعني استعادة العلم من العالم وللأمر نكتة ، فالإنسان ما دام متعينا فهو يأخذ من حواسه وقواه ، وهو عن طريق الحواس والقوى يكون عالما ، وعلى هذا فقولنا إن العالم يكون عالما وهو في بطن أمه يقضي خروج العالم الجنين من بطن أمه إلى العالم ليراه ويدرسه ويفكر فيه ويتأمله ثم يستخلص علمه منه.
فالأمر بين ظاهر وباطن ، أما الباطن فمدده اسم الله الباطن ، وأما الظاهر فمدده اسم الله الظاهر والذي هو عالم العيان نفسه ، والآية أشارت إلى فناء تعين العالم سواء لدى موته أو لدى إصابته بآفة تتلف مركزا من مراكز الدماغ ، أو لدى إصابته بمرض الخرف الذي يصيب الطاعنين في السن فينسى كل ما كان تعلمه ، ويعود طفلا جاهلا كما كان فالله صاحب العلم ، والإنسان وسيلة لظهور العلم الإلهي ولولاه ما ظهر.