وهيغل ، ومن قبلهم الإمام الغزالي ، إن هذه المعقولات مركوزة أصلا في النفس ، وما العالم الخارجي إلا وسيلة للكشف عنها وإخراجها ، والله سبحانه قضى بأن تكون صفاته وسيلة لمعرفته ، وصفاته جميلة كالحق والخير والجمال ، ولما كانت هذه الصفات أخلاقية اقتضى الأمر الاتصاف بها أولا للتحلي بها ثانيا ، كما اقتضى الاتصاف بها الجهاد باطنا وظاهرا كما تحدثنا عن طبيعة التناقض والتضاد ... حتى إذا تم استخراج هذه الصفات والاتصاف بها جعل الله هذه الصفات طريقا إليه لكونها صورا ، فجعل يعلم عبده عن طريق عرض هذه الصور في خواطر اليقظة وفي المنام ، وهذا ما عرضناه عرضا مفصلا في كتابنا علم الكشف ، حيث كشفنا عن أن الرؤيا هي نافذة على العلم الإلهي ، وإنه ما دامت المنامات صورا وجب النفاذ من هذه الصور إلى معانيها. ولما كانت المعاني وطيدة الصلة بالأفعال كان لا بد من التحلي بالأخلاق التي هي أفعال لكي تفهم معاني الصور ، فالأمر حلقات في سلسلة مرتبط بعضها ببعض لا انفصام لها ، فمن لا يعتمد الأخلاق لن يفهم معاني الصور ، ومن لا يفهم المعاني لن يهتدي إلى رب المعاني الذي خلق الإنسان ، علمه البيان.
صحيح أن كثيرا من العلماء غير المؤمنين فتقوا العلوم واستفادوا منها ، ولكن هذه العلوم صارت وبالا عليهم ، إذ استخدموها في غير مجالاتها التي خلقها الله لها ، وهذا ما تفعله المدنية الحديثة إذ تخترع الأسلحة المدمرة الفتاكة ، وتجعل من المفاهيم العصرية وسيلة للسيطرة على العالم واستعباد الأمم ، فالعلم قبل كل شيء هو أخلاق ، وهو من دون الأخلاق وسيلة لشقاء الإنسان وخرابه ، وعند ما تكون الأخلاق أساس العلوم فإنها تجعل من العالم إنسانا مثاليا ، يضع علمه في خدمة الإنسانية ، لا في سبيل شقائها ودمارها ، وليس إلا الله وحده صاحب القانون الأخلاقي من يربي العلماء خير تربية ، وينشئهم أحسن تنشئة حتى يكونوا للناس مصابيح هدى وعونا.
يكفي أن يفكر الإنسان في عالم الذرة ليرى الفارق العظيم بين العلم بالله والعلم بالنفس وحدها ، فتسخير الذرة لخدمة الإنسانية أمر يفوق خيره الخيال ، وكم من معجزات استطاع علم الذرة تحقيقها في سبيل القضاء على الأمراض وإنتاج الطاقة وتحقيق رفاهية الإنسان ، أما تسخيرها من أجل استعباد الشعوب وفرض الهيمنة عليهم ، فهو أمر لم يجر على العالم سوى الخراب والدمار.
٢١ ، ٢٢ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)