١٣٩ ، ١٤٨ ـ (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))
[الصافات : ١٣٩ ، ١٤٨]
يونس النور الجزئي وقد انبث من النور الكلي وحبس في سجن المادة ، وهو في الأصل جزء من اليم الأكبر ، أهبط من عالم النور المحض إلى أرض العيان كما أهبط أبوه آدم ، والفلك المشحون هو من طينة فلك نوح لأنه معمور بأزواج المعقولات من الصفات ، ويونس لما أبق ، أي هرب ، وركب الفلك بدا غريبا عن أهله ، ذلك لأن المعقول كما أسلفنا الكلام يطلب العقل والعاقل كما تطلب الصفة الموصوف ، فالفلك عامر بأهله ، وهو هو هذا العالم العياني بشقيه الظاهر والباطن ، وهو هوية النفس المادية الحاملة للروح والجسم معا والواصلة بينهما ، والغريب في هذا الفلك هو الموحد الذي ركب الفلك غريبا ، وعاش فيه غريبا ، كما قال صلىاللهعليهوسلم في أبي ذر ، ولهذا لا حظ أهل الفلك أن يونس ليس منهم ، وفي التفسير أن ملاحي السفينة قالوا هنا عبد أبق من سيده وتظهره القرعة ، وعلى هذا فالصفات المعقولة لا تقبل الموحد ، ولهذا عاش الموحد غريبا بين الناس وعن الناس ، ولهذا كان صلىاللهعليهوسلم يتحنث في غار حراء في شبابه معتزلا الناس مفكرا في خلق السموات والأرض وشعار الصوفية العزلة ، وشعورهم الاستيحاش من الخلق ، حتى أنهم يجعلون الوحشة والوحدة علامة العارف ، فليس بعارف من استأنس بالناس واسترسل إليهم ، ويبقى السالك في صحراء التأملات إلى أن تظلله نفحة الحق ، وتأتيه ليلة القدر ، فتكشف عن قدره ، وقدره التسبيح كما قال سبحانه : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ،) وقلنا الموحد موحد بالقوة منذ يكون جنينا في بطن أمه ، بل نطفة في صلب أبيه ، بل ذرا في عالم الذر ، فسبحان من خلق هذه الأرواح المباركة لتعرفه وتوحده.
وقوله : (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يعني أن المهاجرين وحدهم هم الناجون ، ونجاتهم عهد على الله كتبه ، عنوانه الرحمة ، فهؤلاء هم المرحومون الذين إذا بلغوا أشدهم واستوى زرع عقلهم أتاهم اليقين والفتح المبين الذي أشير إليه بشجرة اليقطين ، فهذه شجرة مباركة رطبة ، كان النبي يؤثرها على غيرها في طعامه واسمها القرع ، وقيل إن وعلة كانت تأتي يونسا بعد أن نبذ في العراء خارجا من بطن الحوت ، حوت النفس ، سقيما معلولا ، فيشرب من لبنها ، والإشارة إلى أنوار الكشف التي تحتضن القلب الوليد ولادة جديدة ، فتسقيه لبن العلم اللدني قطرة قطرة ، ثم جرعة جرعة ، فيقوى من ثم يصير قادرا على استيعاب هذا العلم العظيم الذي هو جوهر العلوم الإنسانية الإلهية ودرها اليتيم.