وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) ،) ويستمر القرآن في إيراد الآيات على هذه الشاكلة التي تفضي بنا إلى القول إن الإنسان حر ومسؤول ، وإن الله ما خلقه إلا ليميز الخبيث من الطيب.
أما البطن الثاني للآية فهو الثالث الذي أرسله الله إلى المدينة معززا به الاثنين ، والذي هو صوت التوحيد الجامع للتضاد والنافي للتضاد ، ويقال في اللغة الصوفية الجمع هو حق بلا خلق ، فالثالث إشارة إلى الحق الذي ظهر ، وفيه يبلغ الإنسان الجمع أو اليقين الذي يمشي به على الماء.
وقيل أيضا الأحد ليس هو الواحد من جهة العدد ، لأن الواحد مبدأ العدد وعلته ولا ينفك منه ، فالثالث الذي عزز به الاثنين هو الواحد ، وهو النور الأول ، وهو العقل كما قال عليهالسلام : أول ما خلق الله العقل ، وسمي أيضا العقل الأول ، ووصف بأنه علة الأشياء التي تحته ، وقيل في علم هذا العقل : الواحد قبل العلم ليس فيه شيء يريد أن يعلمه كما يعلم العالم ، بل هو العلم الذي لا يحتاج إلى أن يعلم بعلم آخر ، وقيل في هذا الأول : ينبغي ألا يكون كثيرا من جهة من الجهات وإلا كانت الكثرة ، التي فيه معلقة في واحد آخر قبله ، فهذا الواحد ليس هو الله ، ولكنه ليس شيئا سواه ، لأنه نور من نور ، أو نور على نور.
والواحد كما قلنا ، جامع للتضاد ، بل هو مفتق التضاد ، ومنه صدرت الأضداد وتفرعت ، وسميت هذه الأضداد في القرآن أسماء ، ودعاها الله له ، ومن هذه الأسماء الأسماء المتضادة أو المزدوجة كالنافع الضار ، والمضل الهادي ، والرافع الخافض ، والمعز المذل ، فما يقع في عالم العيان يقع بأمر هذا الواحد ، ولهذا قيل إنه علة ما تحته من الأشياء.
والأسماء معقولات كلية قديمة قدم الواحد سميت النفس الكلية واللوح المحفوظ ، وهي حواء أم البشر المنفعلة السالبة الوالدة للبشر ، وحواء خالدة باعتبار أسمائها خالدة ، وهي لا تنفك من عالم العيان ، لأننا سبق أن قلنا إن الصفة بحاجة إلى موصوف ، فأم الصفات بحاجة إلى عالم العيان لتظهر به ، فهي هو وهو هي ، ولهذا قيل إن هذه النفس هي النفس الحيوانية ، أو الحياة ، أو ممثلة اسمه تعالى الحي.
أما البشر فهم أصحاب النفوس الجزئية وأولاد حواء النفس الكلية ، حملتهم ووضعتهم ، وأرضعتهم وأنشأتهم وعلمتهم ، فحواء النفس الفاعلة بتأثير من الروح أو العقل أو النور ، فهي إذن فاعلة وسيطة ، والنور هو الفاعل الحقيقي.
ولقد ذكرنا من قبل موقف الفيلسوف كانط من حرية الإنسان متسائلا عن كيفية التوفيق بين قانون السببية الوجودي وبين حرية الإنسان ، فما دامت الأسباب والمسببات مترابطة بسلسلة وجودية هي النظام الكوني الشامل فكيف يعيش الإنسان تجربة الاختيار وكيف يتفق الاختيار