الملاحظ في الآية أنه سبحانه قال أرسلنا إليهم اثنين ، ولم يقل أرسلنا إليهم رجلين ، فهو قد اعتمد العدد فقط ، والإنسان عدد ، وللآية أبطن نبدأ ببطنها الأول ، فعندما يستبطن الإنسان نفسه ، أي يجعلها موضوعا للدراسة والتأمل ، يجد أنه يفكر ، وقال ديكارت : أنا أفكر إذن أنا موجود والفكر الإنساني قائم على التناقض ، إذ الفكر بين السلب والإيجاب يتذبذب ، وفي كل قضية يعالجها الفكر ، وفي كل موقف يعيش هذا التذبذب بين الأفكار ، فهو يفكر في حل ، ثم يرى لهذا الحل سلبيات ، فيفكر في حل آخر قد يكون مناقضا للحل الأول ، ثم يرى لهذا الحل سلبيات أيضا ، وقد يعود إلى الأول ، أو ينتقل إلى التفكير في حل ثالث ، إلى أن يبت الإنسان القضية ، ويتخذ قرارا ما صادرا عن إرادة حرة متفق عليها ، وعلى أساسها يحاسب المجتمع الإنسان.
والملاحظ في التفكير أن للشهوة دورا في التفكير ، وكذلك للغضب الذي إذا طغى بغى ، أو كما يقال أعماه الغضب وأخرجه عن طوره ، ويقول الإنسان على الغضب ما يندم عليه بعد ذلك فالغضب فكر ، ولكنه فكر غضبي مع الاستعداد جسميا لهذا النوع من التفكير كانتفاخ العروق واحمرار الوجه أو اصفراره وفقدان السيطرة على الجوارح ومنها اللسان.
والملاحظ أن الجميع متفقون على أن الناس أجناس ، فهذا كريم ، وهذا بخيل ، وهذا محتال ، وهذا دين ، وهذا منافق ، وهذا حليم ، وإلى آخر الصفات التي يتصف بها الإنسان ، كما أن من الملاحظ أن ملاحظة سلوك إنسان ما تؤدي إلى إصدار حكم قاطع عليه لا يختلف فيه الناس.
فالاثنان اللذان أرسلا إلى المدينة يمثلان التناقض الكائن في الفكر ، والذي لا بد أن يتخذ قرارا بصدد هذا التناقض الذي قد يؤدي استفحاله أحيانا إلى الإصابة بمرض نفسي يسمى العصاب ، وسببه تفاقم الازدواجية في النفس ، وضغط ميل أو هوى أو غريزة على الفكر بحيث يؤدي في بعض الحالات إلى إغراقه أو إلى شلّه وتعطيله.
والإرادة حرة في الاختيار ، وهذا أمر متفق عليه اجتماعيا أيضا ، وعلى أساسه وضعت القوانين ، والأحكام ، ووقف المجتمع من الإنسان موقفا محددا واضحا يستحيل الخروج عليه ، ومن خرج فعاقبته السجن والإعدام والازدراء والنفي ، ونجد في كتاب الله عددا كبيرا من الآيات تنحصر في نطاق إما أو ، كقوله سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) وقوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١)) وقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨)