والجبال الأمهات من الأعيان الثابتة ، وهي المعقولات قبل الفض وبعده فالمعقول يطلب الموصوف طلبا ذاتيا ليحمله ، ثم يحمله هو بدوره ، فمثل العاقل والمعقول مثل الأعمى والمقعد ، يحمله الأعمى ، ولا عاقل بلا معقول يرشده
والغرابيب السود الصخور الشديدة السواد ، والإشارة إلى عالم الحس والكثافة ، وبينا ضرورة وجود هذا العالم ليظهر العالم المعقول به ، وضرورة وجود عالم المعقول ليقوم المحسوس به ، فلا فصل ولا وصل ، والحقيقة ظاهرة باطنة ، والحق الظاهر الباطن.
٢٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨))
[فاطر : ٢٨]
ثمت صلة بين قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ) وقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ذلك لأن العالم الحق مشاهد مشيئة الله الظاهرة في الناس والدواب والأنعام ، ويتساءل الإنسان عما جعله إنسانا ، ولماذا يكون الحيوان حيوانا ، ولما أطلق الفلاسفة على الإنسان تعريفا هو أنه حيوان ناطق؟
فالإنسان فضل على الحيوان بالفضل الإلهي ، والفضل وهب ، حتى جهد الجاهد في الوصول إلى الكمال إنما هو بفضل من الله ، لأنه هو المضل الهادي ، الرافع الخافض ، وسر خشية العلماء الله أنهم عارفون أنهم لو لا الله ما كانوا علماء ، وأنه سبحانه اختارهم للعلم ، وأنه لو شاء الله لغفر لجميع الكافرين ، وعاقب جميع المؤمنين ، ولهذا جاء في وصف العلماء أنهم يخشون ، وفي الخشية خوف وحذر ، والصوفية بخاصة تواضعوا لله سبحانه لمعرفتهم بضعتهم ، وأن الله هو الذي اختارهم ليكونوا صوفيين أصحاب مناجاة علويين ، ولهذا قال أبو عثمان النيسابوري : من رأى نفسه خيرا من فرعون فقد أظهر الكبر ، وقال الشبلي : لو أجمع الناس على أن يضعوني كاتضاعي في نفسي ما قدروا ، وقال ابن عطاء الله السكندري : كيف أستعز وقد أذللتني ، وكيف لا أستعز وقد أعززتني؟
والخشية من التقدير والتعظيم كذلك ، فما علم العالم وسلطانه لو أن مرضا أصابه فأقعده ، أو لو أصابه الخرف في الكبر فذهب بعلمه وقدره؟
وهناك تقدير الطالب لمعلمه ، والعلماء كلهم طلاب ، والإنسان جاهل ما تعلم ، والعالم يطلب العلم من المهد إلى اللحد ، وقيل آفة العلم النسيان فالعالم واقف بباب الله يرجو رحمته ، وأن يتم عليه نعمته ، وأن يتم له نوره ، سبحانه إذا ظهر نوره كله صار العالم قمرا بدرا شع بالأنوار الإلهية.