لأضله كما أضل فرعون ، ولهذا قال الإمام أبو عثمان النيسابوري من رأى نفسه خيرا من فرعون فلقد أظهر الكبر ، ولو شاء سبحانه لجعل من أبي جهل أبا علم ، سبحانه هو الآخذ بالنواصي مالك القلوب.
ومقام الحيرة آخر مقامات الصوفية ، وفيه يرفع العارف يديه عاليا معلنا استسلامه للواحد القهار صاحب الدار ، يفعل بعباده ما يشاء ، قال أبو يعقوب النهرجوري أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه ، وقال أبو سليمان الداراني من رأى نفسه أنه مستعمل فبأي شيء يعجب.
٥٥ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥))
[الروم : ٥٥]
طي الزمان نتيجة الكشف الذي يبين أن الوجود دائرة متحركة دائمة الدوران ، وما الزمان الذي نعرفه إلا نتيجة هذا الدوران وكل ما في العالم يدور.
والعارف حين يشهد الحقيقة يعلو على الزمان أي يتحرر منه ومن أسره ، أما غير الموحدين ، وهم ما سموا المجرمين فإنهم يعيشون الزمان دون أن يدركوا حقيقة هذا الوهم الكبير ، ولقد ينتبه الإنسان أحيانا مما هو فيه فينظر إلى الماضي فيراه وهما علما أنه عاشه يوما فيوما وساعة فساعة.
٥٦ ، ٥٨ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨))
[الروم : ٥٦ ، ٥٨]
البعث هو ما تحدثنا عنه في الآية السابقة ، وقلنا إن العارفين هم الشهداء عليه ، وكتاب الله هو ما انتقش في صفحة النفس الكلية من آيات هي علوم مجملة تقتضي التفصيل ، وإدراك هذه الحقيقة بعث مؤقت ، لأن من لا يدرك هو ميت أو كالميت ، والمدرك حي.
٥٩ ، ٦٠ ـ (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))
[الروم : ٥٩ ، ٦٠]
لا سبيل إلى إقناع الجاهلين الذين طبع الله على قلوبهم ، ولقد تحدثنا عن هذا الطبع الذي هو طلب الصفة للموصوف وتعلقها به وإلقاء شباكها عليه فهو أسيرها ، لا طاقة له على الخروج عليها لأنه تعينها وتجسدها ولابسها ، فهو هي وهي هو ، وهما زوجان لا يفترقان ، ووصف الله هؤلاء بأنهم لا يعلمون ، وسر هذه الرقيقة أن الإنسان يفكر ثم يفعل ظانا أن فكره