الفساد في البر يرمز إلى الفساد الذي تمارسه الحواس الظاهرة عند ما تسخر لتحقيق غير الغرض الذي خلقت له ، فإذا مد الإنسان عينيه إلى الحياة الدنيا وزينتها ، ونظر بهما إلى النساء والعورات خرج على الحد الذي حده الله للعين ، وكذلك بقية الحواس ، والإسلام دين وسط لا إغراق له في الرهبانية كما فعلت النصارى ولا غلو له في الاستمتاع بالملذات.
والفساد في البحر فساد الذات ، والذات النفس ذاتها ، والملاحظ أن النفس مثل صفحة الماء تعكس كل الصور ، فإذا كانت صورة إنسان أرت صورة إنسان ، وإذا كانت صورة حيوان عكست صورة حيوان ، ولئن تكدر الماء تشوهت الصورة ، ولئن انفعلت النفس لشيء أو اهتزت بخبر أو استحوذ عليها أمر أو اغتمت بهم فحالها كحال صفحة الماء إذا ألقى فيه حجر اهتز وترجرج ، وعلى هذا فالإنسان مسؤول عن نفسه وعن صفائها وعن جعلها مستعدة لتقبل الأنوار ، فمن رغب عن الآخرة إلى الدنيا أكلته الدنيا ، ومن رغب عن الدنيا إلى الآخرة استوفى حظه منها ورزقه ، والعارفون وحدهم رغبوا عن الدنيا والآخرة ولم يطلبوا إلا الله وحده ، قال الشبلي : من ركن إلى الدنيا صار رمادا تذروه الرياح ، ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها فصار ذهبا أحمر ينتفع به ، ومن ركن إلى الله أحرقه بنور التوحيد فصار جوهرا لا قيمة له.
٤٢ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢))
[الروم : ٤٢]
أنشد المعري قائلا :
خفف الوطء ما أظن أديم |
|
الأرض إلا من هذه الأجساد |
رب لحد قد صار لحدا مرارا |
|
ضاحك من تزاحم الأضداد |
فلكم ابتلعت الأرض من أجساد وتحول الرفات إلى رماد ، ولو اعتبر الإنسان بقصر العمر والموت لقعد لنفسه بالمرصاد ولكنه يحيا حياته غافلا.
٤٣ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣))
[الروم : ٤٣]
اليوم المذكور هو اليوم الإلهي الذي تحدثنا عنه من قبل ، وهذا اليوم حاضر غائب وهو بالمرصاد ، واليوم الإلهي منه وبه وإليه ، منه يصدر العقل ، وبه يتحول إلى عاقل ، ثم إلى معقول ، حتى إذا استوفى المخلوق أجله أخذه اليوم أيضا أخذ عزيز مقتدر.
٤٤ ـ (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤))
[الروم : ٤٤]
الحكم حكم الأسماء والصفات ، فهذا لباس يلبسه الإنسان أو يلبس هو الإنسان ، فكيفما