والأصل الرجوع إلى الأنا المطلقة الحاوية للأنيات جميعا حيث تذوب الأجزاء في كليات ، وتذوب الكليات في عقل كلي مطلق هو معنى قوله تعالى لا إله إلا الله ، وقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ، قال جلال الدين الرومي : من يطرق الباب بأنا ونحن فإنه يرد عن الباب ويعلق بالنفي والعدم.
١٥ ، ١٨ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨))
[النمل : ١٥ ، ١٨]
داود وسليمان عليهماالسلام رمزا العقل الجزئي في عروجه من حضيض النفس إلى ملكوت الحقيقة والسر ، والحقيقة أن الحقيقة واحدة في الإنسان ، فما يسمى العقل والقلب والنفس والروح إنما هي درجات للتمييز والإدراك عند الناس ، وبتفاوت حظوظهم من هذا الإدراك يكون المقام والاسم. فالنفس خسيسة لقربها من الحضيض أو كما قال سبحانه في أسفل سافلين ، والقلب متقلب لكونه وسطا بين علو وسفل ، والعقل بينهما هو مع هذا وذاك ، أما الروح فهو المنزلة العالية غنية بمقاماتها السنية ، لها وزر التبعة وحلاوة الاتصال ، فمن وصل مقام الروح كان وليا لله وللعباد ، يأخذ من فوقه عن ربه ، ويعطي من تحته ، فالأصل واحد في الشفافية واللطافة والدرجات أسماء.
وسليمان الذي ورّث داود العقل بعد أن رقى إلى فلك الروح فصار ممثل الروح كما كان يحيى وعيسى عليهماالسلام ، ومنطق الطير منطق الأرواح ، وللشاعر الصوفي فريد الدين العطار كتاب سماه منطق الطير ، وفيه وصف هجرة للطيور إلى الله ، لا يصل منها سوى ثلاثين طيرا يتبين لها أن حقيقة الثلاثين طير واحد فقط هو (السيمرغ) وهو طائر أسطوري يقابله العنقاء في العربية ، والمعنى كما ذكرنا الواحد الذي هو أساس الكثرة والذي منه الإشعاع والمخرج وفيه المدخل والمصب.
وجنود سليمان الخواطر بشقيها السعيد والشقي ، والخواطر الجنود من الجن ، أما جنود الإنس فهم الناس أنفسهم ، إذ أن سليمان هو تعين الإنسان الكامل الواحد ممثل النوع والناس أجمعين.
ووادي النمل إشارة إلى وادي الخواطر والنشاط العقلي ، وضرب النمل مثلا لهذا النشاط لأن النمل اشتهر بدأبه في العمل وجمع المؤونة ، ومثله مثل الفكر المفطور على طلب العلم