قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ ؛) هذا تحذير لأهل مكّة بقوله : كم أهلكنا من أهل قرية من كان أكثر عددا وأبسط ملكا ويدا من أهل قريتك ؛ يعني مكّة التي أخرجتك أهلها ، (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (١٣) ؛ فلم يكن لهم ناصر ينجيهم من عذاب الله ، فحذّر قومك يا محمّد مثل حالتهم.
قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ؛) معناه : حال من كان على نصره من ربه ويقين كحال من زيّن له قبح عمله فيعبدوا الأوثان ، (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٤) ؛ في عبادتها.
قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ؛) أي صفة الجنّة التي وعد المتّقون الشرك والكبائر ، (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ؛) أي متغيّر طعمه وريحه ، يقال : آسن الماء يأسن أسونا وأسنا إذا تغيّر ، وهو الذي لا يشتهيه من نتنه فهو آسن وأسن ، مثل حاذر وحذر. وقيل : إن الآسن ما يعرض أن يتغيّر ، والأسن بالقصر : ما تغيّر في الحال ، وقرأ ابن كثير (أسن) بالقصر (١).
قوله تعالى : (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ؛) أي لم يحمض كما تحمض وتتغيّر ألبان الدّنيا ؛ لأنه لم يخرج من ضروع الأنعام ، (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ؛) بخلاف خمر الدّنيا ؛ فإنّها لا تخلو من المرارة ، وعن ما يحدث فيها من أنواع المرض ومن العقوبة في الدّنيا والآخرة.
قوله تعالى : (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ؛) أي مصفّى من الأقذار ، من العكر والكدر ، بخلاف عسل الدّنيا الذي يكون من بطون النّحل ، فإنه لا يخلو من الشّعر وغيره. قال مقاتل : (أنهار الجنّة المذكورة تتفجّر من الكوثر إلى الجنّة) (٢). ويقال : إنّها تتفجر من تحت شجرة طوبى.
__________________
(١) أسن : بزنة حذر ، وهو اسم فاعل من أسن بالكسر يأسن ، فهو أسن ، كحذر يحذر فهو حذر. ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٦ ص ٢٣٦. واللباب في علوم الكتاب : ج ١٧ ص ٤٤٢.
(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٢٣٧.