فإن قيل : كيف قال (يخرج منهما) وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح؟ قيل : هذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئان (١) ثم يخص أحدهما وهو يفعل دون الآخر (٢) كقوله تعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)(٣) والرسل من الإنس دون الجن. قال الكلبي : (وكذلك قوله تعالى (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً)(٤) وإنما هو في واحدة منها). وقيل : يخرج من ماء السماء ماء وماء البحر. و (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٣).
قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٢٤) ؛ فيه بيان نعم الله تعالى بالسفن العظام التي ينتفع بها للتجارات وغيرها ، المنشآت : المرفوعات الشراع ، وما لم يرفع منها شراعها فلا تكون منشأة. وقيل : المنشآت هي اللواتي ابتدأ بهن في الجري ، والأعلام الجبال العظام ، شبه السفن في البحر بالجبال في البر.
وقرأ حمزة (المنشآت) بكسر الشين ، يعني المبتدئات في السير اللاتي انساب جريهن وسيرهن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٥).
قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٢٦) ؛ أي كل من على الأرض يفنى ، وهذه كناية عن غير مذكور ، ومعنى الآية : كل من دب ودرج على الأرض من حيوان فهو هالك ، وفي هذا منع من الركون إلى الدنيا والاغترار بها. قال ابن عباس : (لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلك أهل الأرض. فأنزل الله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(٥) فأيقنت الملائكة بالهلاك) (٦).
__________________
(١) توهم الناسخ وأسقط (يذكر شيئان) وأدرج فقط (شيئان). ينظر : معالم التنزيل : ص ١٢٥٩.
(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٧ ص ١٦٣ ؛ قال القرطبي : (لأن العرب تجمع الجنسين ثم تخبر عن أحدهما). وقال : (وقال أبو علي الفارسي : هذا من باب حذف المضاف ، أي من أحدهما). وقاله أبو علي في الحجة على القراء السبعة : ج ٤ ص ١٥.
(٣) الأنعام / ١٣٠.
(٤) نوح / ١٦.
(٥) القصص / ٨٨.
(٦) ذكره الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٩ ص ١٨٣. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٧ ص ١٦٥.