وقيل : معناه : أنّ غاية علمهم أن آثروا الدّنيا على الآخرة ، وهذا غاية الجهل. قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ؛) أي إنه عالم بهم ، فهو يجازيهم ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) ؛ أي إنه عالم بالفريقين.
قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ؛) إخبار عن قدرته وسعة ملكه ، ليجزي في الآخرة المحسن والمسيء ، معناه : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا ؛) أي أشركوا ، (بِما عَمِلُوا ؛) من الشّرك ، (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا ؛) أي وحّدوا ربّهم ، (بِالْحُسْنَى) (٣١) ؛ أي بالجنّة.
ثم نعتهم فقال : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ؛) فكبائر الإثم وهو كلّ ذنب ختم بالنار ، والفواحش : كلّ ذنب فيه حدّ. قوله تعالى : (إِلَّا اللَّمَمَ ؛) هذا استثناء منقطع ليس الكبائر والفواحش.
وقال ابن عبّاس : (أشبه شيء باللّمم ما قاله أبو هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّه قال : [إنّ الله كتب على ابن آدم حظّه من الزّنى ، وهو الله يدرك ذلك لا محالة ، فزنى العينين النّظر ، وزنى اللّسان النّطق ، وزنى الشّفتين التّقبيل ، وزنى اليدين البطش ، وزنى الرّجلين المشي ، والنّفس تتمنّى وتشتهي ، والفرج يصدّق ذلك كلّه أو يكذّبه ، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا وإلّا فهو اللّمم]) (١).
وفي هذا دليل أن الأشياء إذا وجدت على التعمّد لم تكن من اللّمم ، واللّمم ما يكون من الفلتات النادرة التي لا يملكها ابن آدم من نفسه ؛ لأنّ الأمّة اجتمعت على أنّ متعمّد النظر إلى ما لا يحلّ فاسق.
واللّمم في اللغة : هو مقاربة الشّيء من غير دخول فيه ، يقال : ألمّ بالشّيء يلمّ إلماما إذا قاربه. وعن هذا يقال : صغائر الذّنوب كالنّظرة والقبلة والغمزة ، وما كان
__________________
(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الاستئذان : باب زنا الجوارح دون الفرج : الحديث (٦٢٤٣). ومسلم في الصحيح : كتاب القدر : باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا : الحديث (٢٠ / ٢٦٥٧) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٥٢٠٣) وذكر الزيادة فيه.