فقال : نعم ما قضي به ولو قضي غير هذا لكان أرفق بكما ، فرجع صاحب الغنم إلى داود عليهالسلام ، فأخبره بما قال ابنه ، فدعاه فقال له : كيف رأيت قضائي؟ فقال : نعم ما قضيت ، فعزم عليه بالأبوة والنبوة ليحكم بينهما ، فدفع الغنم إلى صاحب الزرع ينتفع بدرها ونسلها وصوفها وإلى صاحب الغنم الزرع يصلحه حتى إذا عاد الزرع إلى حاله الأولى ترادا ، فقال له داود القضاء هو ما قضيت فقضى داود بينهم بذلك ، وكان سليمان في ذلك اليوم ابن إحدى عشرة سنة (١) ، قيل : كان هذا الحكم في شريعتهم ، وأما شريعتنا فلا ضمان فيما أفسدته نهارا بلا راع ، وفيما أفسدته ليلا ففيه الضمان عند الشافعي رحمهالله ولا ضمان مطلقا عند أبي حنيفة رحمهالله إلا إذا ترسل تعمدا أو يكون معها سائق أو قائد (٢) ، وكان حكمهما بالوحي عند من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء ، فكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود ، وقيل : كان حكمهما باجتهاد لإدراك فضيلة الاجتهاد عند من جوز الاجتهاد لهم وجوز الخطأ عليهم ، إذ لا قدرة للعبد أن يصيب الحق دائما إلا أنهم لا يقرون عليه (٣) ، والأول أصح لأنهما كانا على الصواب بدليل قوله (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي حكم النبوة والفهم في القضاء ، قيل : كل مجتهد مصيب لظاهر الآية وللخبر حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ وهو قول أبي حنيفة رحمهالله وأصحابه (٤) ، قال عليهالسلام : «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» (٥) ، وقيل : ليس كل مجتهد مصيبا ، بل إذا أخلف اجتهاد المجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه ، ولو كان كل مجتهد مصيبا لم يكن للتقسيم معنى (٦) ، وقوله عليهالسلام : «إذا اجتهد فأخطأ فله أجر» لم يرد أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق ، لأنه عبادة ، والإثم موضوع عنه في الخطأ (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) أورد (مَعَ) للقران ، قوله (يُسَبِّحْنَ) بيان للتسخير ، فكأن قائلا قال : كيف سخرهن؟ فقال : يسبحن ، أي كلما يسبح يسبح معه الجبال بأن خلق الله فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى أو معناه يصلين معه إذا صلى (وَالطَّيْرَ) تسبح معه ، وقدم (الْجِبالَ) ، لأن تسبيحها أغرب لكونها جمادا ، والجملة في محل النصب على الحال ، و (الطَّيْرَ) مفعول معه (وَكُنَّا فاعِلِينَ) [٧٩] أي نحن فعلنا التسبيح والتفهيم بهما وهو بيان لقدرته العظيمة ، قال ابن عباس : «كان يفهم تسبيح الحجر والشجر والطير» (٧).
(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠))
(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) أي الدروع التي تلبس مسرودة (لِتُحْصِنَكُمْ) بالنون والتاء والياء (٨) ، أي ليحفظكم الله (مِنْ بَأْسِكُمْ) أي من شدة وقع السلاح فيكم ، وهو أول من صنع الدرع وسردها (فَهَلْ أَنْتُمْ) يا أهل مكة أو يا أهل بيت داود (شاكِرُونَ) [٨٠] جملة استفهامية ، والمراد بها الأمر ، أي اشكروا لله الذي هو رب هذه النعمة.
(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١))
(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ويظهر للحس بحركته ، يذكر ويؤنث (٩) ، أي سخرناها له (عاصِفَةً) أي شديدة الهبوب في عملها إن شاء سليمان حال لسخرنا مقدرة (تَجْرِي) أي
__________________
(١) اختصره المفسر من البغوي ، ٤ / ٦٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٧٣.
(٢) اختصره من البغوي ، ٤ / ٦٤ ؛ والكشاف ، ٤ / ٦٨.
(٣) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٦٤.
(٤) أخذه عن البغوي ، ٤ / ٦٥.
(٥) أخرجه البخاري ، الاعتصام ، ٢١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٦٥.
(٦) نقله المفسر عن البغوي ، ٤ / ٦٥.
(٧) انظر البغوي ، ٤ / ٦٥.
(٨) «لتحصنكم» : قرأ الشامي وحفص وأبو جعفر بتاء التأنيث ، وشعبة ورويس بالنون ، والباقون بياء التذكير. البدور الزاهرة ، ٢١٢.
(٩) وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ويظهر للحس بحركته يذكر ويؤنث ، وي : ـ ح.