فجعل إدريس يتعجّب منه ، ثمّ أصبحا يوم الثالث صائمين ، فساحا ، فمرّا على كرم قد أينع وطاب (١) ، فقال : يا إدريس ، لو أخذنا من الكرم فأكلنا ، قال له إدريس : ما أرى صاحبه هاهنا لأشتري منه ، وإنّي لأكره أن آخذ بغير ثمن ، قال : فمضيا على مراعي غنم ، فقال : يا إدريس ، لو أخذنا من هذا الغنم شاة ، فأكلنا من لحمها ، قال له إدريس : فما أرى صاحبها فأشتري منه ، وإنّي لأكره أن آخذ شيئا بغير ثمن ، وإنّك معي منذ ثلاثة أيّام ما تطعم شيئا ، لو كنت لطعمت ، وإنّي لأدعوك إلى الحلال كلّ ليلة ، فتأباه ، فكيف تدعوني إلى الحرام (٢) ، فيملح ما بيني وبينك؟ ألا نبّأتني من أنت؟ قال : إنك ستعلم ، قال : لتخبرنّي من أنت؟ قال : أنا ملك الموت ، والملح في كلام العرب هي الصحبة ، قال : ففزع حيث قال : أنا ملك الموت ، قال : فإنّي أسالك حاجة ، فقال : وما هي؟ قال : تذيقني الموت ، قال : ما إليّ من ذلك شيء ، وليس لك بدّ من أن تذوقه ، قال : بلى ، فإنّه قد بلغني عنه شدّة ، فلعلّي أعلم ما شدّته ، فأكون له أشدّ استعدادا ، وأكثر له عملا وحذرا ، قال : فأوحى الله إليه أن يقبض روحه ساعة ثمّ يرسله ، قال : فقبض نفسه ساعة ، ثمّ أرسله ، فقال : كيف رأيت؟ قال : لقد بلغني عنه شدّة ، ولقد كان أشدّ ممّا بلغني منه ، قال له ملك الموت : ما أحببت أن يصيبك هذا في صحبتي ، ولكنّك سألتني فأحببت أن أسعفك ، قال : فإنّي أسالك حاجة أخرى ، قال : ما هي؟ قال : أحبّ أن تريني النار ، قال : ما إليّ من ذلك شيء ، ولكنّي سأطلب ، فإن قدرت عليه ، ففعلت ، فبسط جناحه ، فحمله عليه حتى صعد به إلى السماء ، فانتهى إلى باب من أبواب النار ، فدقّه ، فقيل له : من هذا؟ قال : أنا ملك الموت ، قالوا : مرحبا بأمين الله ، هل أمرت فينا بشيء؟ قال : لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم ، هذا إدريس استأذنت الله في خلته ، فأذن لي ، فسألني أن أريه النار ، فأحبّ أن تروها إيّاه ، قال : ففتح منها شيء ، قال : فجاءت بأمر عظيم ، وخرّ إدريس مغشيا عليه ، قال : فحمله ملك الموت ، فأجلسه في ناحية حتى أفاق ، وقد ذبل واصفرّ ، فقال له ملك الموت : ما أحببت أن يصيبك هذا في صحبتي ، ولكنّك سألتني فأحببت أن (٢٠٩ و) أسعفك ، قال : فإنّي أسألك حاجة غيرها ، قال : ما هي؟ قال : أحبّ أن تريني الجنّة ، قال : ما إليّ من ذلك شيء ، ولكني سأطلب ، فإن قدرت عليه فعلت ، فانطلق به إلى خزنة الجنّة ، فدقّ بابا من أبوابها ، فقيل : من هذا؟ قال : أنا ملك الموت ، قالوا : مرحبا بأمين الله ، هل أمرت فينا بشيء؟ قال : لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم ، ولكن هذا إدريس سألني أن أريه الجنّة ، فأحبّ أن تروها إيّاه ، قال : ففتح له الباب ، فدخل فيها ، فنظر إلى
__________________
(١) أ : خطاب.
(٢) الحرام أن آخذ.