وفي بعض الرّوايات : أنه كان يقول قبل هذا النداء : يا أيّها الناس أنا الذي أعاب ولا خاب ولا مردّ لما قضيت ، فيقول له المشركون : لبّيك ربّنا ، ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا فيقول : ألا إن صفر العام حلال يريد به المحرّم ، وربّما يقول : حرام ، فيحرّمون المحرّم صفرا ، وكان إذا قال الناسيء في المحرّم : حلال ، عقدوا الأوتار وشدّوا الأزجة (١) وأعلوا السيوف وأغاروا على الناس ، وإذا قال : حرّم ، حلّوا الأوتار ونزعوا الأزجة وأغمدوا السيوف (٢).
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ؛) وذلك أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم أقام بالمدينة بعد مرجعه من الطّائف ، ثم أمره الله بالجهاد لغزوة الرّوم وأمره بالخروج إلى غزوة تبوك ، وذلك في زمان عسرة وشدّة من الحرّ حين طابت ثمار أهل المدينة فأمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بالخروج إلى الجهاد فكانوا يتثاقلون من الخروج ويحبّون الظّلال والثمار ، فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها : ما لكم إذا قيل لكم اخرجوا إلى جهاد المشركين تثاقلتم إلى الأرض وتكاسلتم واطمأننتم إلى أوطانكم ، (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ؛) استفهام يعني الإنكار ؛ أي آثرتم (٣) عمل الدّنيا على عمل الآخرة ، وآثرتم الحياة في الدّنيا على الحياة في الآخرة ، (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (٣٨) أي ما منفعة الدّنيا في الآخرة وفي ما يتمتّع به أولياء الله في الجنّة إلا يسير لأن الدّنيا تضمحلّ ويفنى أهلها ، والآخرة دار القرار.
قوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ؛) أي إلّا تخرجوا مع نبيّكم في الجهاد يعذّبكم عذاب الاستئصال ،
__________________
(١) الزّجّ : زجّ الرّمح ؛ والسهم ، والجمع : الزّجاج. قال الأزهري : زجّ الرمح : الحديد التي تركّب سافلة الرمح ، والسّنان : التي تركب عاليته ، والزّجّ يركز به الرمح في الأرض ، والسّنان يطعن به. ويقال لنصل السهم : زجّ. قال خالد بن كلثوم : كانوا يستقبلون أعداءهم إذا أرادوا الصلح بأزجّة الرّماح ، فإن أجابوهم وإلا قلبوا الأسنّة وقاتلوهم. ينظر : تهذيب اللغة : ج ١ ص ٢٤٤ (زج).
(٢) نقله أهل التفسير عن الكلبي ؛ ينظر : المحرر الوجيز : ص ٨٤٥.
(٣) في المخطوط : (اخترتم) وهو غير مناسب ، فأثبتناه كما يقتضي سياق الكلام.