وقال أهل المعاني : الاستدراج : أن تندرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا ، ولا يتابع ولا يجاهر (١) ، يقال : استدرج فلانا حتى نعرف ما صنع ؛ أي لا تجاهره ولا تكثر عليه السّؤال دفعة واحدة ، ولكن كلّمه درجة درجة وقليلا قليلا حتى نعرف حقيقة ما فعل. وقيل : معنى قوله (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) سنذيقهم من بأسنا قليلا قليلا.
قوله تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣) ؛ أي أمهلهم وأطيل لهم المدة ، فإنّهم لا يفوتونني ولا يفوتني عذابهم ولا يعجزونني عن تعذيبهم. وقوله : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إنّ صنعي شديد محكم ، وأخذي قويّ شديد. والكيد : هو الإصرار بالشّيء من حيث لا يشعر به.
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ؛) قال الحسن وقتادة : (وذلك أنّ النّبيّ صلىاللهعليهوسلم صعد الصّفا ذات ليلة يدعو قريشا إلى عبادة الله قبيلة قبيلة وفخذا فخذا : يا بني فلان ، يحذّرهم بأس الله وعقابه ، فقال المشركون : إنّ صاحبكم قد جنّ ؛ بات ليله يصوّت إلى الصّباح ، فأنزل الله هذه الآية) (٢). ومعناها : أولم يتفكّروا بقلوبهم ليعلموا ويستيقنوا ما بمحمّد صلىاللهعليهوسلم من جنون.
قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤) ؛ أي ما هو إلّا يعلم لموضع المخافة ليتّقى ولموضع الأمن ليبتغى. وقوله تعالى (مُبِينٌ) أي بيّن أمره ؛ فهلّا جالسه الكفار فيطلبوا حقيقة أمره ، ويتفكّروا في دلائله ومعجزاته.
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) معناه : أولم ينظروا في السّموات والأرض طالبين لما يدلّهم على وحدانيّة الله تعالى ، وعلى صدق رسوله في ما دعاهم إليه. والملكوت : هو الملك العظيم. قوله تعالى : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) معناه : وما خلقه الله بعد السّموات والأرض ، فإن ذلك يدلّ على وحدانيّة الله تعالى مثل ما تدلّ السموات والأرض. (ما) بمعنى الّذي.
__________________
(١) في المخطوط : (لا يتاعب ولا يهاجر).
(٢) عن قتادة ؛ أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١١٩٩٧).