فإن قيل : كيف قال زكريّا (أنّى يكون لي غلام) فاستبعد أن يعطيه الله ولدا على كبر السّنّ من امرأة عاقر بعد ما بشّرته الملائكة بذلك؟ قيل : لم يكن هذا القول منه على جهة الاستبعاد ولكن من شأن من بشّر بما يتمنّاه أن يحمله فرط سروره به على الزيادة في الاستكشاف والاستثبات ، كما يقول الإنسان إذا رأى شيئا من الأمور العظيمة : كيف كان هذا؟! على جهة الاستعظام لقدرة الله تعالى لا لشكّ في القدرة.
وقيل : معناه : على أيّ حال يكون الولد أيردّني الله وامرأتي إلى حال الشّباب ، أم على هذه الحالة؟! وقيل : معناه : أيرزقني الله الولد من امرأتي هذه أو من امرأة غيرها شابّة؟ فقيل له (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ؛ أي كإثمار السّعفة اليابسة ؛ يفعل الله ما يشاء.
قوله تعالى : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) ؛ أي قال زكريّا يا رب اجعل لي علامة إذا حملت امرأتي عرفت ذلك منها ، أراد بهذا القول تعجيل السّرور قبل ظهور الولد بالولادة. قال : علامة ذلك أن لا تطيق الكلام مع أحد من الناس منذ ثلاثة أيّام من غير خرس (إلّا رمزا) أي الّا إشارة بالعينين والحاجبين واليدين ، وقيل : الرّمز : تحريك الشّفتين باللفظ من غير إبانة صوت ، فذلك علامة حبل امرأتك.
قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)) ؛ أي اذكر ربّك كثيرا في هذه الأيّام الثلاثة ؛ (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي صلّ غدوّا وعشيّا كما كنت تصلّي من قبل ، يقال : فرغت من سبحتي ؛ أي من صلاتي ، وسمّيت الصلوات سبحا لما فيها من التوحيد والتّحميد والتّنزيه من كلّ سوء. وقيل : أراد بالتسبيح التسبيح المعروف فيما بين الناس ، وقرأ الأخفش (رمزا) بفتح الميم مصدرا مثل طلبا.
قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)) ، معطوف على (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) ، والمراد بالملائكة جبريل عليهالسلام على ما تقدّم. ومعنى (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي اختارك لطاعته وعبادته ، (وَطَهَّرَكِ) من الكفر بالإيمان والطاعات ، كما قال : (لِيُذْهِبَ