قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) ؛ إنّ هذه القسمة بعد فضل المال على الدّين ، وبعد إمضاء الوصيّة من الثّلث إن كان الميت أوصى بها. قرأ ابن كثير وابن عامر : (يوصى بها) بفتح الصّاد. وقرأ الباقون بكسر الصّاد.
فإن قيل : كيف ذكر الله الوصيّة قبل الدّين ؛ والدّين مقدّم على الوصيّة؟ قيل : إنّ كلمة (أو) لا توجب الترتيب ، لكنّها توجب تأخير قسمة الميراث في هذه الآية عن أحدهما إذا انفرد ، وعن كلّ واحد منهما إذا اجتمعا. روى عليّ كرّم الله وجهه عن رسول الله [أنّه قضى بالدّين قبل الوصيّة](١) وهذا شيء قد اجتمعت عليه الأمّة حتى روي عن ابن عبّاس : أنه قيل له : ما لنا نقدّم أفعال العمرة على أفعال الحجّ وقد قال الله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)(٢)؟ كما تقدّمون الدّين على الوصيّة ، وقد قال الله تعالى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ).
قوله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) ؛ معناه : إنّ المذكورين في الآية آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيّهم أقرب لكم نفعا في الدّنيا ولا في الآخرة ، أمّا في الدّنيا فقد يكون الولد أكثر نفعا لوالده ، وقد يكون الوالد أكثر نفعا لولده. وأمّا في الآخرة ، فإنّ الأب أرفع درجة في الجنّة يسأل الله تعالى أن يرفع ابنه إليه فيرفع ، وإن كان الابن أرفع سأل الله أن يرفع أباه إليه.
وفي هذا جواب طعن الملحدين عن قولهم : هلّا كان الرجال أولى بالميراث لكونهم قوّامين على النّساء؟ وعن جواب آخرين منهم لم جاز تفضيل الذكر على الأنثى في قسمتها الميراث ؛ والأنثى أولى بالزيادة بعجزها عن التصرّف؟ فبيّن الله تعالى أنه فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة ومصلحة لهم ، ولو وكّل ذلك إليكم لما تعلموا أيّهم أنفع ، فوضعتم الأموال في غير حكمة. وقيل معناه : لا يدري أحدكم أهو أقرب وفاة فينتفع ولده بماله ، أم الولد أقرب وفاة فينتفع والده بماله.
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٩٥١). والترمذي في الجامع : الفرائض : الحديث (٢٠٩٤) ، وإسناده صحيح.
(٢) البقرة / ١٩٦.