لأنّ الرجل يستبقي ممّا يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلا في الجودة والفضل. ويقال : فلان من بقيّة القوم ؛ أي : من خيارهم. ويجوز أن يكون البقيّة بمعنى البقوى كالتقيّة بمعنى التقوى. أي : فهلّا كان منهم ذو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه؟ (إِلَّا قَلِيلاً). استثناء منقطع. أي : ولكن قليلا [ممّن أنجينا] من القرون ، نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي. ومن في (مِمَّنْ أَنْجَيْنا) حقّها أن تكون للبيان لا للتبعيض. لأنّ النجاة إنّما هي للناهين وحدهم. ويجوز أن يكون متّصلا. لأنّ في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم. فكأنّه قيل : ما كان من القرون أولو بقيّة إلّا قليلا. ويكون انتصابه على أصل الاستثناء ، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا). وهم تاركوا النهي عن المنكرات. أي : لم يهتمّوا بالأمر والمعروف والنهي عن المنكر وعقدوا همهم [بالشهوات] واتّبعوا ما عرفوا فيه التنعّم والتترّف من حبّ الرئاسة والثروة ونحوهما ورفضوا ما وراء ذلك. ويجوز أن يكون المعنى أنّهم اتّبعوا جزاء إترافهم. وقوله : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ) إن كان معناه : واتّبعوا الشهوات ، يكون معطوفا على مضمر. لأنّ المعنى : إلّا قليلا ممّن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتّبع الذين ظلموا شهواتهم ، فهو عطف على نهوا. وإن كان معناه : [واتّبعوا] جزاء الإتراف ، فالواو للحال. كأنّه قيل : أنجينا القليل وقد اتّبع الذين [ظلموا] جزاءهم. فقوله : (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) عطف على أترفوا. أي : اتّبعوا الإتراف وكونهم مجرمين. لأنّ تابع الشهوات مغمور بالآثام. أو على اتّبعوا. أي : اتّبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. (١)
[١١٧] (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ)
(وَما كانَ) ؛ أي : ما صحّ وما استقام. واللّام لتأكيد النفي و (بِظُلْمٍ) حال من الفاعل. والمعنى : واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها واهلها قوم مصلحون ، تنزيها لذاته
__________________
(١) الكشّاف ٢ / ٤٣٦ ـ ٤٣٨.