فيه ، كأنه سبحانه قسم المضغة إلى قسمين : أحدهما تامة الصور والحواس والتخاليط ، وثانيهما الناقصة في هذه الأمور ؛ فبين بعد أن صيره مضغة أن منها ما خلقه إنسانا تاما بلا نقص ، ومنها ما ليس كذلك ، وهذا قول قتادة والضحاك ، فكان الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة ؛ منها ما هو كامل الخلقة نقي من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم. (وثانيها) : إن المخلقة الولد الذي يسري فيه وظائف الحياة ويخرج حيّا ، كما سيأتي ، وغير المخلقة السقط (وثالثها) قال القفال : التخليق ، مأخوذ من الخلق ، فما تتابع عليه الأطوار من الأحوال ، وتوارد عليه الخلق بعد الخلق ، فذاك هو المخلق ؛ لتتابع الخلق عليه. قالوا : فما تمّ فهو المخلق ، وما لم يتمّ فهو غير المخلق. وفيه مباحث تتعلق بالتغذية ودورة الدم والتنفس وقابلية المعيشة وغير ذلك.
«المبحث الأوّل في التغذية» :
تغذية الجنين تحصل من ينابيع مختلفة ، ففي الابتداء يكون كنبات يتشرّب ما يلزم له من الرطوبة المحيطة به ، وخمل سطحه الذي هو إسفنجي خلوي يأخذ من البوق أو الرحم أصولا مغذية كافية لنمو الحوصلات ، ثم بعد ذلك تتغذى العلقة كما تتغذى الفرخ المحوي في البيضة ، أو كما يتغذى النبات الصغير المحوي في فصوصه الوريقية فتأخذ شيئا فشيئا المادّة المحوية في الحوصلة السرية حتى تنزحها وتشرب على التدريج الجوهر المستحبلي الذي في الكيس الشبكي ؛ أي الجيب الحوصلي ، وهذان العضوان ، أي الحوصلة السرية والكيس الشبكي ، جعل تعالى في الأوّل مادّة شبيهة بصفار البيض ، وفي الثاني جوهرا كأنه خليط مستحلب ، وحين يصل إلى نهاية الشهر الثاني ، تتكون أوعية الحبيل وتظهر تخاطيط المشيمة فتكفي تلك المشيمة لحظ نمو الجنين فبملامستها للرحم تأخذ منها الأصول الصالحة للجنين وتشتغل فيها حتى يكون شكلها سائلا مشابها للدم ، فيتجهز منه ما يناسب الجنين لتمصه أصول الوريد السرّي ؛ كالكبد والكلية والخصية تأخذ من أوعيتها المخصوصة ما تتكون منه الصفراء والبول والمني ، وكالأشجار والنباتات تأخذ من الأرض أصول المركبات الكثيرة التي تحتوي هي عليها.
«المبحث الثاني في التغذية بماء الأمنيوس» :
أقدم الآراء وأميلها للطبيعة هو أن الجنين يتغذى من ماء «الأمنيوس» ولهم في بيان ذلك وجهان : (أحدهما) : أن هذا الماء مزدرد منهضم. (وثانيهما) : أنه يمتص من طرق