فهذا معنى قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٤) [البلد : الآية ٤] ويظهر منه أنه لابد للإنسان من البعث والقيامة ؛ لأن الحكيم الذي دبر خلقه الإنسان إن كان مطلوبه منه أن يتألم فهذا لا يليق بالرحمة ، وإن مطلوبه أن لا يتألم ولا يلتذ ففي تركه على العدم كفاية في هذا المطلوب وإن كان مطلوبه أن يلتذ فقد بينا أنه ليس في هذه الحياة لذة ، وأنه خلق الإنسان في هذه الدنيا في كبد ومشقة ومحنة فإنه لا بدّ بعد هذه الدار من دار أخرى ؛ لتكون تلك الدار دار السعادات واللذات والكرامات.
«المقالة الحادية عشر»
في قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) [الحج].
اعلم أن هذه الاستدلال لتقلب الإنسان في أدوار الخلقة وأكوان الفطرة مراتب وهي سبعة :
(المرتبة الأولى) :
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١٢) [المؤمنون : الآية ١٢]. السلالة الخلاصة ؛ لأنها تسل من بين الكدر فعالة ، وهو بناء يدل على القلة كالقلامة والقمامة ، واختلف أهل التفسير في الإنسان فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل ـ رضي الله عنهم ـ : المراد منه آدم عليهالسلام ، فآدم سل من الطين ، وخلقت ذريته من ماء مهين. وقوله : (ثُمَّ جَعَلْناهُ) [المؤمنون : الآية ١٣]. الكناية راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم ، والإنسان شامل لآدم عليهالسلام ولولده ، وقال آخرون : الإنسان هاهنا ولد آدم والطين هاهنا اسم آدم ـ عليهالسلام ـ والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت في أوعية المني صارت منيا ، وهذا التفسير مطابق لقوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) [السّجدة : الآية ٧] ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين وفيه وجه آخر وهو أن الإنسان إنما يتولد من النطفة ، وهي إنما تتولد من الدم بواسطة الخصيتين والدم إنما يتولد من «الكيلوس» ، والكيلوس إنما يتولد من «الكيموس» ، وهو إنما يتولد من الأغذية نباتية كانت أو حيوانية ، وهذه تنتهي إلى نباتية ، والنبات إنما يتولد من صفوة الأرض والماء ، فالإنسان بالحقيقة يكون متولدا من سلالة من طين ، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت عليها أطوار