ومنه تكبد اللبن والمني إذا غلظا واشتدا. والفرق بين القولين ؛ أن في الأول جعل اسم الكبد موضوعا للكبد ، ثم اشتقت منه الشدة ، وفي الثاني جعل اللفظ موضوعا لشدة والغلظ ، ثم اشتق منه اسم العضو.
(والوجه الثاني) : أن الكبد مشتق من تكبد إذا غلظ أي تخثر ، ويمكن أن هذا يدلنا في بعض الأحيان على ما يحصل في تخثر النطفة أي تجمدها ، ونظير ذلك إذا حصل التهاب لغشاء مصلى مثلا كالغشاء المستبطن للصدر شوهد في لابتداء سيال مصلى غزير صاف ، ثم يصير عكرا قليل الكمية وينعقد حتى يصير كبياض البيض إذا عرض للحرارة ، ثم يحدث فيه ذلك تجاويف كتجاويف العجين المحمر وحويصلات صغيرة تكاد على حسب انتظامها أن تكون صفوفا ، ثم ينفتح بعضها في بعض وتستحيل القنوات وعائية ممتلئة بسيال مضطرب منها اضطرابا ظاهرا ، ثم تتولده في بعض تفممات بين هذه الأوعية والأوعية الشعرية المجاورة لمحل الالتهاب ، وتسري الحياة العامة في هذا الغشاء المتكوّن تكونا جديدا ، وهذه المشاهدة وإن لم نعلم منها الحكم بأن استحالة السوائل إلى الجوامد مضطرّة في كل مادّة حيوانية ، إلا أنها نافعة لأننا قد اطلعنا بها على وظيفة من الوظائف الباطنة ، وفهمنا سرّا من الأسرار التي نفعها علينا في أكثر الأحوال.
(والوجه الثالث) : أن الكبد شدة الخلق والقوة إذا عرفت هذا فنقول : أمّا على الوجه الأول فيحتمل أن يكون المراد شدائد الدنيا فقط ، وأن يكون المراد شدائد التكاليف فقط ، وأن يكون المراد شدائد الآخرة فقط ، وأن يكون المراد كل ذلك ؛ أما الأوّل فقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٤) [البلد : الآية ٤]. أي خلقناه أطوارا كلها شدّة ومشقة ابتداء عند تكون النطفة وتكبدها وتقلباته في بطن الأم من العلقة إلى المضغة إلى تقلب الأطوار إلى خلق الجديد ، ثم زمان الإرضاع ثم إذا بلغ ففي الكدّ في تحصيل المعاش ، ثم بعد ذلك الموت ، وأما الثاني وهو الكبد في الدين فقال الحسن : يكابد الشكر على السراء ، والصبر على الضراء ، ويكابد المحن في أداء العبادات ، وأما الثالث وهو الآخرة فالموت ، ومسألة الملك ، وظلمة القبر ، ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقرّ به القرار إما في الجنة وإما في النار.
(والوجه الرابع) : وهو أن يكون اللفظ محمولا على الكل فهو الحق وعندي فيه وجه آخر وهو أنه ليس في هذه الدنيا لذة ألبتة ، بل ذاك الذي يظن أنه لذة فهو خلاص عن الألم ، فإن ما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عن ألم الجوع ، وما يتخيل من اللذة عند اللبس فهو خلاص عن أمل الحر والبرد ، فليس للإنسان إلا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال إلى آخر ،