الحيوانات كثيرة العدد في هذا السائل المحتوي على كثير من هذا الملح ، وبعد هلاك هذه الحيوانات زالت مادتها الحيوانية بالتعفن في باطن الماء ، ولم يبق منها الا المادة غير العضوية ، أي ملح الجير الذي كانت غلافاتها متكونة منه ، فصارت هذه الرسوبات الجبرية تتراكم على شكل طبقات سميكة في قاع البحار ، ثم انضمت إلى بعضها فتكونت منها طبقات ، ولما صارت هذه الطبقات تزداد بمضي القرون تكونت منه الأراضي الحجرية الجيرية التي نشاهدها الآن ، ومن النعمة (٩) التي بها البقاء ، ومنها خلق المحتاج إليه وإن لم يكن ضروريا كأنواع الحبوب وأجزاء الشمس والقمر.
(واعلم) أن النافع وإن لم يكن محتاجا إليه كأنواع الفواكه وخلق البحار من ذلك كما قال تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) [البقرة : الآية ١٦٤]. ومنها الزينة ، وإن لم يكن نافعا كاللؤلؤ والمرجان ، كما قال تعالى : (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) [فاطر : الآية ١٢]. فقد تبين لك نعمة اللؤلؤ والمرجان مع ما فيه من الزينة ، فإن الله تعالى ذكر أنواع النعم الأربعة التي تتعلق بالقوى الجسمانية وصدرها بالقوة العظيمة التي هي الروح ، وهي العلم بقوله علم القرآن.
(تنبيه) : هذه بيان عجائب الله تعالى لا بيان النعم ، وذلك لأن خلق الإنسان من صلصال وخلق الجان من مارج من نار من باب العجائب لا من باب النعم ، ولو خلق الله الإنسان من أي شيء خلقه لكان إنعاما إذا عرفت هذا فنقول : إن الله تعالى بين بقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) [الرّحمن : الآية ١٤]. أنه خلق الإنسان من تراب وطين وبين بقوله : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥)) [الرّحمن : الآية ١٥] أن النار أيضا أصل لمخلوق عجيب وبين بقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢)) [الرّحمن : الآية ٢٢]. أن الماء أصل لمخلوق عجيب كالحيوان ، فانظر إلى قدرة الحكيم القادر.
(في بيان قوله تعالى :
(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)) [فاطر : الآية ١٢]).
__________________
(٩) قوله : ومن النعمة ... إلخ. كذا بالأصل ، والمعنى ظاهر وفي التركيب ركاكة. اه.