الفاعل المختار كما قال تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) [النّمل : الآية ٦١]. وإنما جعل بينهما حاجزا لئلا يفسد العذب منهما بالاختلاط ، وليحصل لهما أيضا انتفاع بذلك الحاجز بحيث جعله تعالى منوعا فما كان من جهة العذب فيكتسب من العذوبة الحلاوة ، وما كان من جهة الآخر يكتسب منه الملوحة وغيرها فظهر حينئذ أن في جوف الأرض بحرين : بحر الحلاوة وبحر الملوحة وما أشبههما ، فإن قيل : لم جعل تعالى الماء في باطن الأرض قسمين : حلوا ومالحا ولما لم يجعله حلوا محضا. (قلنا) : لو لم يجعل منه قسما مالحا لظهرة تعفناته وانتشر فساده في الأرض ، ولفسدت تكونات الكائنات وتعطلت المولدات الثلاث ، وما ذلك إلا دليل حكمة الفاعل المختار ، ومكور الليل والنهار كما قال تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠)). وفيه مسائل :
(المسألة الأولى):
مرج إذا كان متعديا كان بمعنى خلط أو ما يقرب منه ، فكيف قال تعالى : (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرّحمن : الآية ١٥]. ولم يقل ممروج. فنقول مرج متعد ، ومرج بكسر الراء لازم ، فالمارج المريج من مرج يمرج كفرح يفرح ، والأصل في فعل أن يكون غريزيا والأصل في الغريزي أن يكون لازما وثبت له حكم الغريزي ، وكذلك فعل في كثير من المواضع.
(المسألة الثانية):
في قوله : (الْبَحْرَيْنِ) [الكهف : الآية ٦٠]. وجوه : (أحدها) : بحر في باطن الأرض وهو البحر المسجور المشتعل ، والبحر المحيط. (وثانيها) : البحر الحلو والبحر المالح المعدني المتكونان في باطن الأرض كما قال تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) [فاطر : الآية ١٢]. (وثالثها) : ما ذكر في المشرقين وفي قوله : (تُكَذِّبانِ) [الرّحمن : الآية ١٣]. أنه إشارة إلى النوعين الحاضرين فدخل فيه البحر المسجور والبحر المحيط والبحر العذب والبحر المالح المعدني ، وأنه تعالى خلق في باطن الأرض بحرا تحيط هي به ، وخلق في ظاهرها بحرا يحيط وهو بها إلا ما قل.
(المسألة الثالثة):
إذا كان المرج بمعنى الخلط فما الفائدة في قوله : (يَلْتَقِيانِ) [الرّحمن : الآية ١٩]. نقول قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) [الفرقان : الآية ٥٣]. أي أرسل بعضهما في بعض ، وهما عند الإرسال بحيث يلتقيان أو من شأنهما الاختلاط والالتقاء ، ولكن الله تعالى منعهما عما في