قال بعض العلماء المراد من الاستواء الاستيلاء قال الشاعر :
قد استوى بشر على العراق |
|
من غير سيف ودم مهراق |
فإن قيل : هذا التأويل غير جائز لوجوه :
(أحدها) : أن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز ، وذلك في حق الله تعالى محال.
(وثانيها) : أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه وكان المستولي عليه موجودا قبل ذلك ، وهذا في حق الله تعالى محال ؛ لأن العرش إنما حدث لتخليقه وتكوينه.
(وثالثها) : الاستيلاء حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة.
(فالجواب) : أنا إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية. قال صاحب الكشاف : لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك ، جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على البلد يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير ألبتة ، وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك ؛ لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ، ونحوه قولك : يد فلان مبسوطة ، ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل ، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة ؛ لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد.
وقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : الآية ٦٤]. أي هو بخيل بل يداه مبسوطتان أي هو جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط ، والتفسير بالنعمة والتمحل للتسمية من ضيق العطن ، ونقول : إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية ، فإنهم أيضا يقولون : المراد من قوله تعالى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : الآية ١٢]. الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل. وقوله تعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (١٩)) [الأنبياء : الآية ٦٩]. المراد منه تخليص إبراهيم ـ عليهالسلام ـ من يد ذلك الظالم يعني النمروذ من غير أن يكون هناك نار وخطاب ألبتة ، وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى ، بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية توجب الانصراف عنه ، وليت من لم يعرف شيئا لم يخض فيه ، وهذا تمام الكلام في هذه الآية الشريفة.