(وعاشرها) : أن الخليل عليهالسلام قال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : الآية ٧٦] ولو كان المعبود جسما لكان أفلا أبدا غائبا أبدا فكان يندرج تحت قوله : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : الآية ٧٦].
فثبت بهذه الدلائل أن الاستقرار على الله تعالى محال فعند هذا صار للناس فيه قولان :
(الأول) : أنا لا نشتغل بالتأويل ، بل نقطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة ونترك تأويل الآية. وروى الشيخ الغزالي عن بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه أول ثلاثة من الأخبار قوله عليهالسلام : الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، وقوله عليهالسلام : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن». وقوله عليهالسلام : «إني لأجد نفس الرحمن من جهة اليمين».
(واعلم) أن هذا القول ضعيف لوجهين :
(الأول) : أنه إن قطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة فقد قطع بأنه ليس مراد الله تعالى من الاستواء الجلوس ، وهذا هو التأويل وإن لم يقطع بتنزيه الله تعالى عن المكان والجهة ، بل بقي شاكا فيه فهو جاهل بالله تعالى اللهم إلا أن يقول : أنا قاطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به ظاهره ، بل مراده به شيء آخر ولكن لا أعين ذلك المراد خوفا من الخطأ ، وهذا يكون قريبا وهو أيضا ضعيف ؛ لأنه تعالى لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا يريد باللفظ إلا موضوعه في لسان العرب ، وإذا كان لا معنى للاستواء في اللغة إلا الاستقرار والاستيلاء ، وقد تعذر حمله على الاستقرار فوجب حمله على الاستيلاء ، وإلا لزم تعطيل اللفظ وهو غير جائز.
(والثاني) : وهو دلالة قاطعة على أنه لا بد من المصير إلى التأويل وهو أن الدلالة العقلية لما قامت على امتناع الاستقرار ، ودل ظاهر لفظ الاستواء على معنى الاستقرار فإما أن نعمل بكل واحد من الدليلين ، وإما أن نتركهما معا ، وإما أن نرجح النقل على العقل ، وإما أن نرجح العقل ونؤول النقل ، والأول باطل وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد منزها عن المكان وحاصلا في المكان وهو محال والثاني أيضا محال ؛ لأنه يلزم رفع النقيضين معا وهو باطل ، والثالث باطل لأن العقل أصل النقل فإنه كما لم يثبت بالدلائل العقلية وجود الصانع وعلمه وقدرته وبعثته للرسل لم يثبت النقل في القدح في العقل والنقل معا ، فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل ، وهذا برهان قاطع في المقصود ، إذا ثبت هذا فنقول :