فلأن يتحملوا مشاق أقل منها لطلب المنافع الأخروية التي هي أعظم من المنافع الدنيوية أولى ، والباري تعالى قادر على خلق الشفاء من غير تناول الدواء ، لكنه أجرى عادته مع توفيقه بتوقفه عليه ؛ لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية دفعا لضرر المرض فلأن يتحمل مشاق التكليف دفعا لضرر العقاب أولى وأحق ، فلو خلق تعالى جميع الأجرام من غير قوة الجذب والدفع لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم ، فيكون ذلك كالمنافي للتكليف والابتلاء ، أما إذا خلقها تعالى بهذه الوسائط فحينئذ يفتقر المكلف في إسنادها إلى القادر العليم إلى نظر دقيق وفكر غامض الأسرار يستوجب الثواب ، ولهذا قيل لو لا الأسباب لما ارتاب مرتاب ، فربط تعالى الأسباب بمسبباتها وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار والألباب كما قال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١) [آل عمران : الآيتان ١٩٠ ، ١٩١]. واذا تبين لك ذلك فاعلم أن علماء الهيئة قالوا : إن الشمس التي هي في وسط الكواكب الشمسية هي كوكب مضيء. وهو أعظم من الأرض بألف ألف مرة وثمانمائة وثمان وعشرين ألف مرة ، وإن عطارد أعظم منها بست عشرة مرة وإن الزهرة أعظم من الأرض بتسع مرات وإن المريخ أعظم منها بست مرات والمشتري أعظم منها بألف وأربعمائة وسبعين مرة وإن زحل أعظم منها بثمانمائة مرة وسبع وثمانين مرة ، فمن أجل ذلك كانت الشمس تجذب اليها سائر الكواكب السيارة وقد قدمنا الإشارة إلى ذلك وقد زعم بعض الحكماء ، أنه توصل برصد الكواكب إلى معرفة القوى التي يترتب عليها تدبير الحركات وتحديدها فقال : الموجود من القوى قوتان :
إحدهما : القوة الجاذبة إلى المركز والأخرى القوة الدافعة عنه ، فالقوة الأولى تجذب الكواكب في الفراغ ؛ لأن عادتها أن تجذب الشيء بقدر عظم الشيء الجاذب ، ويضعف جذبها بقدر مربع بعد الشيء المجذوب يعني أن الجاذبية قوية مرتين في جسم عظيم مرتين ، وضعيفة أربع مرات في جسم بعيد مرتين ، وضعيفة ست عشرة مرة في جسم بعيد أربع مرات وهكذا فلذلك كانت الشمس تجذب إليها سائر الكواكب السيارة لما أن الشمس أعظم منها.
وأما القوة الثانية : وهي الدفع عن المركز فإنها تجعل الكوكب يتحرك على خط مستقيم ، فلما انضمت هذه القوة إلى الأولى جعلت الكواكب ترسم قطوعا ناقصة أي حمائلية حول الشمس ، وجعلت الشمس دائما في إحدى نقطتي الاحتراق وعظم هذه القوة يكون على حسب القرب من الشمس ، فلذلك كانت الكواكب البعيدة من الشمس بطيئة السير في ممرها.