وأما السؤال الثاني فجوابه : أن المقصود منه أنه سبحانه وتعالى وإن كان قادرا على إيجاد الأشياء دفعة واحدة ، لكنه جعل لكل شيء حدا محدودا ووقتا مقدورا ، فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه ، فهو وإن كان قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال. وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال ؛ إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر ، فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد ، بل لما ذكرنا أنه خص كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته ، فلا يفتر عنه ، ويدل هذا قوله تعالى في سورة ق : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ.) بعد أن قال قبل هذا : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٣٧). فأخبرهم أنه قد أهلك من المشركين به ومن المكذبين لأنبيائه من كان أقوى بطشا من مشركي العرب ، الا أنه أمهل هؤلاء لما فيه من المصلحة كما خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام متصلة ، لا لأجل لغوب لحقه في الإمهال ، ولما بين بهذا الطريق أنه تعالى إنما خلق العالم لا دفعة ، لكن قليلا قليلا في ستة أزمان من الدخان ، وزمن الماء ، وزمن التعجن ، وزمن التيبس ، وزمن ظهور الجبال ، وزمن تولد المولدات على ما سيأتي قال تعالى بعده : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [طه : الآية ١٣٠]. أي من الشرك والتكذيب ، ولا تستعجل لهم العذاب ، بل توكل على الله تعالى وفوض الأمر إليه ، وهذا المعنى هو ما يقوله المفسرون من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ؛ ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر عليها ، ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على الإهمال والتعطيل ، ومن العلماء من ذكر فيه وجهين :
(الأول) : أن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع طريق الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذاك إنما وقع على سبيل الاتفاق ، أما إذا أحدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للمصلحة والحكمة ، كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث قديم حكيم وقادر عليم ورحيم.
(والوجه الثاني) : أنه قد ثبت بالدليل أنه تعالى لم يخلق العاقل أولا ثم يخلق السماوات والأرض بعده ثم إن ذلك العاقل إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى لعلمه وبصيرته ؛ لأنه يتكرر على عقله ظهور هذا الدليل لحظة بعد لحظة ، فكان ذلك أقوى في إفادة اليقين. وأما السؤال الثالث فجوابه : أن ذكر السماوات والأرض في هذه الآية يشتمل أيضا على ذكر ما بينهما ، والدليل عليه أنه تعالى ذكر سائر المخلوقات في سائر الآيات المبينة لذلك فقال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما