(المسألة الثالثة):
لسائل أن يسأل فيقول : كون هذه الأشياء مخلوقة في ستة أيام لا يمكن جعله دليلا على إثبات الصانع وبيانه من وجوه :
(الأول) : أن وجه دلالة هذه المحدثات على وجود الصانع هو حدوثها أو إمكانها أو مجموعهما ، فأما وقوع ذلك الحدوث في ستة أيام أو في يوم واحد فلا أثر له في ذلك ألبتة.
(والثاني) : أن العقل يدل على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز ، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في ستة أيام إلا باخبار مخبر مصدق صادق ، وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار. فلو جعلنا هذه المقدمة في إثبات الصانع لزوم الدور.
(والثالث) : أن حدوث السماوات والأرض دفعة واحدة أدل على كمال القدرة والعلم من حدوثها في ستة أيام. إذا ثبت ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة فنقول : ما الفائدة في ذكر أنه تعالى إنما خلقها في ستة أيام في إثبات ذكر ما يدل على وجود الصانع.
(والرابع) : أنه ما السبب في أنه اقتصر هاهنا على ذكر السماوات والأرض ولم يذكر خلق سائر الأشياء.
(والخامس) : اليوم إنما يمتاز عن الليل بسبب طلوع الشمس وغروبها ، فقبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل حصول الأيام.
(والسادس) : أنه تعالى قال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٠) [القمر : الآية ٥٠] وهذا كالمناقض لقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف : الآية ٥٤].
(والسابع) : أنه تعالى خلق السماوات والأرض في مدة متراخية ، فما الحكمة في تقييدها وضبطها بالأيام الستة.
(فنقول) : أما على مذهبنا فالأمر سهل في الكل واضح ؛ لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه في أمر من الأمور ، وكل شيء صنعه لا علة لصنعه. ثم نقول : أما السؤال الأول فجوابه : أنه سبحانه وتعالى ذكر في أول التوراة أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، والعرب كانوا يخالطون اليهود ، والظاهر أنهم سمعوا ذلك منهم فكأنه سبحانه يقول لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السماوات والأرض على غاية عظمتهما ونهاية جلالتهما في ستة أيام.