آدم وأولاده ، ثم علم الله تعالى أصناف حاجاتهم فكأنه قال : يا آدم لا أحوجك إلى غير هذه الأرض التي هي لك كالأم ، فانظر يا عبدي إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ، ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع ، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها تسجن فكيف الحال في الجنة ، فالحاصل أن الأرض أمك ، بل أشفق من الأم ؛ لأن الأم تسقيك لونا واحدا من اللبن ، والأرض تطعمك كذا وكذا ألوانا من الأطعمة. ثم قال تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ) [طه : الآية ٥٥]. معناه تردكم إلى هذه الأم ، وهذا ليس بوعيد ؛ لأن المرء لا يوعد بأمه ؛ وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض ، ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطشت فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى ، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى ؛ لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة فضلا عن أن تكون لك كبيرة ، بل كنت مطيعا لله تعالى ، بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك إلى ربك ، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك ، ثم قال تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً) الآية.
(اعلم) أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشياء النسل الحاصل من الحيوان وأنواع الثمار رزقا لبني آدم ؛ ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم ، ويعرفوا أن شيئا من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينه وتخليقه إلا من كان مخالفا لها في الذات والصفات ، وذلك هو للصانع الحكيم سبحانه وتعالى وها هنا سؤالات :
(الأول) : هل تقولون : إن الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات عقيب وصول الماء إليها بمجرد العادة ، أو تقولون : إن الله تعالى خلق في الماء طبيعة مؤثرة ، وفي الأرض طبيعة قابلة ، فإذا اجتمعتا حصل الأثر من تلك القوى التي خلقها الله تعالى؟ (والجواب) : لا شكّ أنه على كلا القولين لا بد من الصانع الحكيم ، وأما التفصيل فنقول : لا شك أنه تعالى قادر على خلق هذه الثمار لابتداء من غير هذه الوسائط ؛ لأن الثمرة لا معنى لها إلا جسم قام به طعم ولون ورائحة ورطوبة ، والجسم قابل لهذه الصفات ، وهذه الصفات مقدورة لله تعالى ابتداء ؛ لأن المصحح للمقدورية أما الحدوث أو الإمكان أو هما ، وعلى التقديرات فإنه يلزم أن يكون الله تعالى قادرا على خلق هذه الأعراض في الجسم ابتداء بدون هذه الوسائط ، ومما يؤكد هذا الدليل العقلي من الدلائل النقلية ما ورد في الخبر أنه تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للشائين من غير هذه الوسائط إلا أنا نقول : قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام ، وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين