(المسألة الرابعة) :
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع ، وتقريره أن أجرام السماوات والأرض تقدرت في أمور مخصوصة بمقادير مخصوصة وذلك لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار ، أما بيان المقام الأول فمن وجوه :
(الأول) : أن كل فلك مخصوص اختص بمقدار معين مع جواز أن يكون الذي كان حاصلا مقدار أزيد منه أو أنقص منه.
(والثاني) : أن كل فلك مقدر بمقدار مركب من أجزاء ، والجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجا وبالعكس ، فوقوع كل واحد منها في حيزه الخاص أمر جائز.
(الثالث) : أن الحركة والسكون جائزان على كل الأجسام بدليل أن الطبيعة الجسمية واحدة ولوازم الأمور الواحدة واحدة ، فإذا صح السكون والحركة على بعض الأجسام وجب أن يصحا على كلها ، فاختصاص الجسم بالحركة دون السكون اختصاص بأمر ممكن.
(والرابع) : أن كل حركة فإنه يمكن وقوعها أسرع مما وقع ، وأبطأ مما وقع فاختصاص تلك الحركة المعينة من السرعة والبطء اختصاص بأمر ممكن.
(والخامس) : أن كل حركة وقعت متوجهة إلى جهة فإنه يمكن وقوعها متوجهة إلى سائر الجهات ، فاختصاصها بالوقوع على ذلك الوجه الخاص اختصاص بأمر ممكن.
(والسادس) : أن كل فلك (١) فإنه يوجد جسم آخر إما أعلى منه ، وإما أسفل منه ، وقد كان وقوعه على خلاف ذلك الترتيب أمرا ممكنا ، بدليل أن الأجسام لما كانت متساوية في الطبيعة الجسمية ، فكل ما صح على بعضها صح على كلها ، فكان اختصاصه بذلك الحيز والترتيب أمرا ممكنا. (والسابع) : هو أن لحركة كل جسم أولا ؛ لأن وجود حركة لا أول لها محال ؛ لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة ، وهذا الانتقال يقتضي كونها مسبوقة بالغير والأول ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال ، فثبت أن لكل حركة أولا واختصاص ابتداء حدوثه بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده اختصاص بأمر ممكن.
(والثامن) : هو أن الأجسام لما كانت متساوية في تمام الماهية كان اتصاف بعضها بالفلكية وبعضها بالعنصرية دون العكس اختصاصا بأمر ممكن.
(والتاسع) : هو أن حركاتها فعل لفاعل مختار ، ومتى كان كذلك فلها أول ، بيان المقام
__________________
(١) قوله : إن كل فلك ... إلخ. كذا بالأصل ، وفيه ما لا يخفى. اه.