والجمال للإيذان بأنه ـ عزوجل ـ هو المستحق له بذاته ووصفه ، ووصفه تعالى ثانيا بما ينبئ عن تفصيل بعض موجباته المنتظمة في سلك الإجمال من عظائم الآثار وجلائل الأفعال من قوله عزوجل : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : الآية ١]. للتنبيه على استحقاقه تعالى له واستقلاله به باعتبار أفعاله العظام وآياته الجسام ، وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود ومأمول ومقصود.
إذا علمت هذا فنقول :
(اعلم) أن الله سبحانه وتعالى خلق جوهرة ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم خلق السماوات والأرض وفتق ما بينهما.
(المسألة الثانية) :
فإن قيل : لم قدم ذكر السماء على الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء؟ فالجواب : أن السماء كالدائرة والأرض كالمركز ، وحصول الدائرة يوجب تعيين المركز ، ولا ينعكس فإن حصول المركز لا يوجب تعيين الدائرة ؛ لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها ؛ فلذلك اكتسبت الأرض الجذب العام الفلكي فمن هذا التاثير انقادت إلى القوانين المؤثرة في بقية الأجزاء المركبة لها ، فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار.
(المسألة الثالثة) :
فإن قيل : لم ذكر السماء بصيغة الجمع والأرض بصيغة الإفراد ، مع أن الأرضين أيضا كثيرة يدل عليه قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطّلاق : الآية ١٢].
فالجواب أن السماء جارية مجرى الفاعل ، والأرض مجرى القابل ، فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر ، وذلك يخل بمصالح هذا العالم ، فلما كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية فحصل بسببها المد والجزر وتقببها في خط الاستواء وتفرطحها في القطبين ؛ وسائر الأحوال المختلفة ، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم.
أما الأرض فهي قابلة للأثر ، والقابل الواحد كاف في القبول ، وحينئذ فكرة الأرض مكونة من طبقات ذات مركز واحد مؤلفة من مواد مختلفة تأخذ كثافتها في التزايد من الدائرة إلى المركز.