(المقالة الرابعة والأربعون)
في قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : الآية ٣٨]. اعلم أن الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير ، فجميع ما خلق الله من الحيوانات فإنه لا يخلو عن هاتين الصفتين ، إما أن يدب ، وإما أن يطير ، وفي الآية أسئلة :
(السؤال الأول) : من حيوان ما لا يدخل في هذين القسمين مثل حيتان البحر ، وسائر ما يسبح في الماء ويعيش فيه ، والجواب : لا يبعد أن توصف بأنها دابة من حيث إنها تبد في الماء كالطير ؛ لأنها تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء إلا أن وصفها بالدبيب أقرب إلى اللغة من وصفها بالطيران ، وجملة أقسام من الحيتان تدب على الأرض وترعى وباقيها أغلبه له أوكار في عمق البحار.
(السؤال الثاني) : ما الفائدة في تقييد الدابة بكونها في الأرض؟ والجواب من وجهين : (الأول) : أنه خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجا بالأظهر ؛ لأن ما في السماء وإن كان مخلوقا مثلنا فغير ظاهر. (والثاني) : أن المقصود من ذكر هذا الكلام أن عناية الله تعالى لما كانت حاصلة في هذه الحيوانات فلو كان إظهار المعجزات القاهرة مصلحة لما منع الله من إظهارها ، وهذا المقصود إنما يتم بذكر من كان أدون مرتبة من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالا منه ، فلهذا المعنى قيد الدابة بكونها في الأرض.
(السؤال الثالث) :
ما الفائدة في قوله يطير بجناحيه ، مع أن كل طائر إنما يطير بجناحيه؟ والجواب فيه من وجوه : (الأول) : أن هذا الوصف إنما ذكر للتأكيد كما يقال نعجة أنثى وكما يقال كلمته بفمي ومشيت إليه برجلي.
(والثاني) : أنه يقول الرجل لعبده طر في حاجتي والمراد الإسراع ، وعلى هذا التقدير فقد يحصل الطيران بالجناح وبغيره قال الحماسي :
طاروا إليه زرافات ووحدانا
فذكر الجناح لتحمض هذا الكلام في الطير.