«المقالة الرابعة والثلاثون»
في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١)) [الشعراء : الآيات ٧٨ ـ ٨١].
اعلم أن هذه الأوصاف أربعة ، أولها قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٧٨) [الشّعراء : الآية ٧٨].
(واعلم) أنه سبحانه وتعالى أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣). (واعلم) أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع منه ، فلنتكلم في الإنسان فنقول : إنه مخلوق من قالب هو من عالم الخلق والجسمانيات ، ومن قلب هو من عالم الأمر والروحانيات ، وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : الآية ٢٩]. فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج ، وتركيب الأمشاج ، ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر ، وأيضا قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) [الحجر : الآية ٢٦] من سلالة من طين ، ولما تمم مراتب الإنسان من تغيرات الأجسام قال : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : الآية ١٤]. وذلك إشارة إلى إنسان أكمل أوصاف من جميع المخلوقات ، ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح ، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية ، أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية فهو أن بدن الإنسان إنما يتولد عنه امتزاج النطف وهما إنما يتولد منهما أربعة أنواع من الأنسجة الأصلية المتكونة منها جميع الأعضاء ، وتلك الأنسجة هي : النسيج العضلي ، والعصبي ، والخلوي والجوهر القرني ، ثم إن هذه الأربعة الأصلية إذا تنوعت ، واجتمع بعضها مع بعض بمقادير مختلفة تكون منها جميع الأنسجة والأعضاء (واعلم) أن الأعضاء تنقسم إلى جملة طوائف تسمى مجاميع وأجهزة على حسب كون كل طائفة منها قائمة بوظيفة على حدتها ، ولذلك انقسمت الأجهزة باعتبار وظائفها إلى عشرة : (الأول) الجهاز الهضمي : وهو المتكون من القناة الممتدة من الفم إلى الدبر. (الثاني) : الجهاز الماص الذي يمص جميع خواص الأغذية ، ويسمى باللينفاوي ، وهو الأوعية والغدد اللينفاويتان. (الثالث) : الجهاز الدوري وهو المشتمل على القلب والشرايين والأوردة والأوعية الشعرية. (الرابع) : الجهاز النفسي ، ويقال له الرئوي. (الخامس) : الجهاز الغددي ويقال له الإفرازي. (السادس) : الجهاز الحسي وهو المشتمل على الحواس والأعصاب والنخاع