اعتبار الفرع ، (فاعلم) أن النسب يعتبر بعد اعتبار العبادة كما أن الجعل
شعوبا يتحقق بعد ما يتحقق الخلق ، فإن كان فيكم عبادة تعتبر فيكم أنسابكم وإلا
فلا. (الثاني) : قوله تعالى : (خَلَقْناكُمْ) [الأنعام : الآية ٩٤]. (وَجَعَلْناكُمْ) [الإسراء : الآية ٦]. إشارة إلى عدم جواز الافتخار ؛ لأن ذلك ليس بسعيكم
ولا قدرة لكم على شيء من ذلك ، فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه؟ فإن قيل الهداية
والضلالة كذلك لقوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ) [الإنسان : الآية ٣]. وقوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : الآية ١٤٢]. فنقول أثبت الله تعالى لنا فيه كسبا مبنيا على فعل
كما قال الله تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمّل : الآية ١٩]. ثم قال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : الآية ٣٠]. وأما في النسب فلا.
(الثالث) :
قوله تعالى : (لِتَعارَفُوا) [الحجرات : الآية ١٣]. إشارة على قياس خفي ، وبيانه كأنه تعالى قال : إنكم
جعلتم قبائل لتعارفوا ، وأنتم إذا كنتم أقرب إلى شريف تفتخرون به فخلقتم لتعرفوا
بكم ، فإذا كنتم أقرب منه وهو أشرف الموجودات كان الأحق بالافتخار هناك من الكل
الافتخار بذلك. (الرابع) : فيه إشارات إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالإنسان
، وذلك لأن القبائل تتعارف بسبب الانتساب إلى شخص ، فإن كان ذلك الشخص شريفا صح
الافتخار في ظنكم ، وإن لم يكن شريفا لم يصح ، فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو
بانتسابه إلى فصيلته ، أو باكتسابه فصيلة ، فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء ، وإن
كان بالاكتساب فالدين والفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر ، فكيف
يفتخر بالأب وأبي الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه على ذلك الأب
والجد اللهم إلا أن يجوز شرف الانتساب إلى رسول الله ـ صلّى الله تعالى عليه وسلم
ـ فإن أحدا لا يقرب من الرسول بالفضيلة حتى يقول : أنا مثل أبيك. ولكن في هذا
النسب أثبت النبي ـ صلّى الله تعالى عليه وسلم ـ الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب
ونفاه عمن أراد الشرف بالانتساب فقال : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث». وقال : «العلماء
ورثة الأنبياء». أي لا نورث بالانتساب وإنما نورث بالاكتساب. (سمعت) أن بعض الشرفاء
كان في النسب أقرب الناس إلى علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ غير أنه كان فاسقا وكان
هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل ومال الناس إلى التبرك به والتعلم منه فاتفق
أنه خرج يوما من بيته فاتبعه خلق كثير ، فلقيه الشريف سكرانا وكان الناس يطردون
الشريف ويبعدونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال يا أسود الحوافر
والشوافر ، يا كافر ابن كافر أنا ابن رسول الله أذل وتجل ، وأذم وتكرم ، وأهان
وتعان ، فهم الناس بضربه فقال الشيخ : لا هذا محتمل منه