والقول الثاني : أن مفعول شهد هو الشهر ، والتقدير : فمن شهد الشهر وشاهده بعقله وبمعرفته فليصمه ، وهو كما يقال شهدت عصر فلان وأدركته ، وهو تفسير لا غبار عليه بعد أن تعرف أن خطابات الله جميعا تتوجّه إلى المكلفين ، فلا عبرة بما قيل : إنه كالأول فيه مخالفة للظاهر ؛ لاحتياجه للتخصيص ، إذ يقال : للصبي المجنون إنه أدرك الشهر ، نعم هم مدركون ، ولكنّهم لا يدخلون تحت قوله : (مِنْكُمُ) إذ إنّ كون كل خطابات الشارع متوجهة إلى من يأتي تكليفهم قد فرغ منه ، فمثله مثل (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣ ، ٨٣ ، ١١٠] على أنه على فرض دخول هؤلاء ، فالآية تكون مخصوصة على هذا الوجه. وعلى الوجه الأول فيها تقدير محذوف.
وقد تقرر في الأصول أنه إذا تعارض التخصيص والإضمار ، تعيّن المصير إلى التخصيص ، وبدهي أن القول الأول يلزمه أن الآية لا توجب الصوم إلا على المقيم ، فلا يكون صوم المسافر مسقطا للواجب ، بل يكون الواجب في حقه الفطر ، وهذا كلام قد نسب إلى الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ القول به. والجمهور يرون الآية عامة في المكلفين ، وهي تشمل المسافر والمقيم ، غير أن المسافر يترخّص بالفطر كالمريض ، وعليهما عدة من أيام أخر.
هذا وظاهر الآية يفيد أن الصيام إنما يجب بشهود جميع الشهر ، وذلك غير متأتّ ، إذ إنّ شهود جميع الشهر لا يتأتّى إلا بعد انقضائه ، وبعد انقضائه لا يتأتى لأحد أن يصوم ما مضى ، فمن هنا قالوا : إنه يتعين أن يكون المعنى فمن شهد بعض الشهر فليصمه ، غير أنهم اختلفوا ، فقال بعضهم : المراد بالبعض أوّل الشهر. وهو منسوب للإمام علي ، وعلى ما تقدم على مذهبه يلزم أن يكون الحكم في حق من كان مسافرا أوّل الشهر أنه لا يجب عليه صيام الشهر ، بل يجب عليه الفطر.
ويرى الجمهور أن أيّ بعض يكفي في وجوب الصوم ، غير أنهم اختلفوا ، فالحنفية يرون أن صوم جميع الشهر يجب بشهود أيّ جزء منه ، ويرى الشافعية أن شهود أي جزء موجب لصوم ذلك الجزء على الراجح من مذهبهم.
بعد هذا نقول : إنّ الأئمة رضوان الله عليهم قد اختلفوا فيمن جنّ في رمضان ، ولا بد أن نعرض لهذا الخلاف فنقول : اتفقوا على أنّ من جنّ كلّ رمضان لا يجب عليه الصوم في الحال ، لعدم إمكان توجّه الخطاب إليه حالا ، واختلفوا فيه إذا أفاق بعد رمضان ، قال المالكية وجماعة : إنه يقضي ما مضى ولو جنّ سنين. وقال غيرهم : إنه لا قضاء عليه لما مضى ، كالصبي إذا بلغ ، والكافر إذا أسلم.