نزّل بعد ذلك منجّما. ولا منافاة بين إنزاله في رمضان ، وإنزاله في ليلة
القدر والليلة المباركة. لأنّ ليلة القدر والليلة المباركة كانتا في رمضان ، وقيل
: معنى (أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) أنزل في شأنه القرآن.
و (الْقُرْآنُ) اسم لكلام الله المنزل على محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقد اختلف في اشتقاقه ، فقيل : إنه مشتق من القراءة :
بل قد جاء بمعناها ، كما في قوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨].
وقيل : من
القران ، لأنّ آياته قد قرن بعضها ببعض. وقيل من القرء بمعنى الجمع. وقيل غير ذلك.
(هُدىً لِلنَّاسِ) : هاديا لهم بما اشتمل عليه من الحكم والمواعظ التي هي
شفاء ورحمة ، وهو منصوب على الحال ، أي : (أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) هاديا للناس إلى طريق الخير ، ومبينا وكاشفا عن وجه
الحق ، بما اشتمل عليه من الآيات الواضحات ، وفارقا بين الحق والباطل (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ).
قد يقال : ما
الحكمة في إيراد (وَبَيِّناتٍ مِنَ
الْهُدى وَالْفُرْقانِ) بعد قوله : (هُدىً لِلنَّاسِ)؟
وجوابه : أنه
تعالى ذكر أولا أنه هدى للناس ، ثم هذا الهدى نوعان : تارة يكون الهدى بينا واضحا
تنساق إليه العقول انسياقا. وتارة لا يدركه إلا خواصّ الناس. ولا شك أن الأول أكثر
فائدة ، فكان ذكره بعد الأول للميزة الخاصة بعد الميزة العامة. وهو على هذا في
منتهى البلاغة.
وقيل في الجواب
: إن المراد بالهدى الأول أصول الدين. والثاني فروعه.
(فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قال بعضهم : إن الفاء هنا زائدة ، لأنها إما للعطف وإما
للجزاء وهما لا يصلحان هنا ، فكانت زائدة كزيادتها في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨] وقال الفخر الرازي : ويمكن أن يقال : إن الفاء هنا ليست زائدة
، بل هي للجزاء ، فإنه تعالى لما بيّن كون رمضان مختصّا بالشرف العظيم ، وهو إنزال
القرآن فيه ، وهو شرف لا يشاركه فيه سائر الشهور ، فهو لذلك يناسبه أن يختص بهذه
العبادة ، ولذلك تقدّم وصفه بخاصة إنزال القرآن فيه ، كأنه قيل : وإذا كان رمضان
مختصا بهذه الفضيلة فخصّوه أنتم بهذه العبادة.
(شَهِدَ) : حضر ، والشهود الحضور. ثم هنا قولان :
أحدهما : أنّ مفعول شهد محذوف ، لأن المعنى : فمن شهد البلد في
الشهر بمعنى أنه لم يكن مسافرا. ويكون الشهر منصوبا على الظرفية.