وقد أجاب القائلون بالوجوب : بأنه كما يوصف التطوع بأنّه خير وأطهر ، كذلك يوصف الفرض ، بل هو أولى.
وأما آية (أَأَشْفَقْتُمْ) فهي ناسخة للوجوب الذي ثبت بالأمر ، ولا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة اتصالهما في النزول.
وهؤلاء القائلون بالوجوب وبالنسخ اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ ، فقال بعضهم : ما بقي المنسوخ إلّا ساعة من نهار ، وينسب ما روي عن تأخّر كبار الصحابة عن تقديم الصدقة إلى ضيق الوقت ، وروي أنه بقي الأمر عشرة أيام ثم نسخ.
وقد روى عن علي بن أبي طالب أنه أول من عمل بهذا الأمر ، وآخر من عمل به ، وأنه كان عنده دينار فصرفه إلى عشرة دراهم ، فكلما ناجى الرسول صلىاللهعليهوسلم قدّم درهما.
ويرى أبو مسلم الأصفهاني عدم وقوع النسخ ، ويقول في هذه الآية : إنّه كان يوجد بين المؤمنين جماعة من المنافقين ، كانوا يمتنعون من بذل الصدقات ، وإنّ فريقا منهم عدل عن نفاقه ، وصار مؤمنا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا. فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين الذين لا يزالون على نفاقهم ، فأمر بتقديم الصدقة ، ليتميز هؤلاء من هؤلاء ، وإذا كان هذا التكليف لهذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت ، لا جرم يقدر التكليف بذلك الوقت.
قال الفخر الرازي : وحاصل قول أبي مسلم أنّ ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة ، فلا يكون هذا نسخا.
ثم قال : وهذا كلام حسن لا بأس به ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ) ومنهم من قال : إنه منسوخ بوجوب الزكاة.
ونحن نرى مع الفخر الرازي أنّ كلام أبي مسلم كلام حسن ، لكنّا نبحث عن أولئك الذين حسن إيمانهم ، الذين أريد تمييزهم من المنافقين ، فلا نجد أنّ أحدا تصدّق.
بل لقد روي أنّه لم يعمل بهذه الآية إلا الإمام علي بن أبي طالب ، ولقد عجب الناس كيف لم يعمل كبار الصحابة بهذا التكليف ، وصاروا يعتذرون عنه بأنه لم يبق إلا ساعة من نهار ، ومنهم من قال : إنّه استمر عشرة أيام ، ومنهم من قال : نسخ قبل أن يعمل به أحد.
ويعجبنا قول الفخر في الدفاع عن عدم عمل الصحابة : أنه على تقدير أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت ولم يفعلوا فهذا لا يجر إليهم طعنا ، وذلك أن الإقدام على هذا العمل مما يضيق به قلب الفقير ، ويوحش قلب الغني ، لأنه إن لم يفعل جرّ ذلك إلى الطعن فيه ، فهذا العمل لما كان سببا لحزن الفقير ، ووحشة الغني ، لم يكن في تركه كبير مضرة ، بل لقد بينا أنهم إنما كلّفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة. ولما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة ، لم يكن تركها سببا للطعن.