حصول المناجاة بالفعل ، فأمر الله المؤمنين أن يقدّموا صدقات عند مناجاة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، بهذا ترى أنّ الآية متصلة بما قبلها تمام الاتصال ، فكلّ منهما متعلّق بما يكون في مجلس الرسول صلىاللهعليهوسلم وما يفعله الجالسون في المجلس الشريف.
أمر الله المؤمنين بذلك حدّا للمناجاة التي تكون لغير حاجة ومنعا منها ، ونفعا للفقراء الذين يكونون في مجلس الرسول صلىاللهعليهوسلم وقد تدعو المناجاة إلى أن يقوموا من مجلسهم لهذا الذي يريد أن يناجي الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فإذا كان هذا القيام سيعود بالفائدة على الفقراء اطمأنت قلوب القائمين ، فقراء كانوا أو أغنياء ، فإنّ الأغنياء يطيب خاطرهم لنفع الفقراء.
والتعبير بقوله تعالى : (بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) يراد منه أن تكون الصدقة حاضرة عند النجوى ، على طريق تمثيل النجوى بمن له يدان ، أو هو استعارة مكنية تقوم على تشبيه النجوى بالإنسان ، وإثبات اليدين تخييل.
ويقول المفسرون : إن هذا الأمر اشتمل على فوائد كثيرة :
منها : تعظيم أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وإكبار شأن مناجاته ، كأنها شيء لا ينال بسهولة.
ومنها : التخفيف عن النبي صلىاللهعليهوسلم بالتقليل من المناجاة.
ومنها : تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فإنهم إذا علموا أنّ قرب الأغنياء من الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ومناجاتهم له تسبقها الصدقة لم يضجروا.
ومنها : عدم شغل الرسول صلىاللهعليهوسلم بما لا يكون مهما من الأمور ، فيتفرغ للرسالة فإنّ الناس وقد جبلوا على الشحّ بالمال يقتصدون في المناجاة التي تسبقها الصدقة.
ومنها : تمييز محبّ الدنيا من محبّ الآخرة ، فإنّ المال محكّ الدواعي.
هذا وقد اختلف العلماء في مقتضى هذا الأمر ، أهو الوجوب أم هو الندب.
فقال بعضهم بالوجوب ، مستدلا بأنّ الآية فيها أمر بتقديم الصدقة عند النجوى ، والأمر للوجوب ، ثم قال الله في آخر الآية : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومثل هذا لا يقال إلا في الواجبات التي لا تترك.
وقال بعضهم : إن الأمر هنا للندب والاستحباب ، وذلك أنّ الله قال في الآية : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ومثل هذا قرينة تصرف الأمر عن ظاهره ، وهو إنما يستعمل في التطوع دون الفرض.
وأيضا قال الله تعالى في الآية التي بعد هذه مباشرة : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) وهذا يزيل ما في الأمر الأوّل من احتمال الوجوب ، انظر إلى قوله : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).