وإنما ذكر الله العدل في الإصلاح بعد الفيئة ، لأنّ هذا وقت قد غلبت فيه الفئة الباغية على أمرها ، ويغلب أن تظلم ، وتصادر أموالها ، وما أخذ منها لا يردّ إليها.
فالعدل وذكره هنا بمثابة أن يقال : لا يحملنّكم قهركم إياهم على ظلمهم ، فهم طائفة من المؤمنين عصمت دماؤهم ، وعصمت أموالهم ، وما حصل منهم يكفي فيه قهرهم ، وما نالهم من الهزيمة ، فتكون الآية حينئذ ظاهرة في أنّه لا يجوز أسرهم بعد الفيئة ، ولا يكون مالهم فيئا ولا يضمّنون شيئا.
قال الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)) بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنّه لو ظهرت بوادر القتال بين طائفتين من المؤمنين ، فالواجب إصلاح ذات البين بالنصح والإرشاد ، فإن جنحا للسلم ، فقد كفى الله المؤمنين القتال ، وإن جنحت إحداهما ، وبغت الأخرى ، فالواجب قتال الباغية حتّى تفيء إلى أمر الله ، فإن فاءت ورجعت ؛ فالواجب الإصلاح بالعدل ، لا يجهز على جريح ، ولا يسبى أحد ، ولا يقسم الفيء ، وهنا بيّن الله تعالى أنّ الإصلاح كما يجب بين الجماعات فهو واجب بين الأفراد ، حتّى لا يظنّ ظانّ أنّ الإصلاح إنما يجب عند اختلاف الجماعات والطوائف ، لأنّ اختلاف الجماعات شديد البلاء ، يخشى منه على المسلمين أن تذهب ريحهم ، ويتمكّن منهم عدوّهم. فأمّا إذا كان الخلاف بين فردين فليست له هذه الأهمية ، فلا يجب الإصلاح ، فدفعا لهذا الوهم قال الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وقد ذهب بعض أهل اللغة ، إلى أنّ إخوة جمع الأخ من النسب ، وأما الأخ بمعنى الصديق فجمعه إخوان ، فجعل الله الإخوة في الإسلام إخوة في النسب ، فأعطاها اسمها توكيدا لأمر المحافظة عليها ، وإشارة إلى أنهم في الإسلام إخوة ، وأن الإسلام ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم.
أبي الإسلام لا أب لي سواه |
|
إذا افتخروا بقيس أو تميم |
وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين ذيّل الله الأمر به بالأمر بالتقوى ، لأنّه لما لم يكن عاما فقد لا يخشى ضرره ، فلا يتسارع الناس إلى إزالته ، فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يعني والله أعلم : فأصلحوا بينهما ، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح تقوى الله وخشيته ، والخوف منه ، فالتزموا الحق العدل ، ولا تحيفوا ، ولا يكن منكم ميل لأحد الأخوين ، فإنّهم إخوانكم ، وليس أحدهما بالنسبة إليكم فاضلا والآخر مفضولا ، إذ الذي جمع بينكم وبينهما الإسلام ، وفي الإسلام تذهب الفوارق وتتلاشى.
الحصر (بإنما) يفيد أنّ أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الإخوة في الإسلام ، فأما بين الكفار فلا ، وأما بين المسلم والكافر ، فللمسلم علينا النصرة