وكان الظاهر على هذا المعنى أن يقول : ولكنّ الله حبّب إلى بعضكم الإيمان ، ولكنّه عمّم الخطاب تعريضا بمن فرط منه ذلك ، وإشارة إلى أنهم وقد دخلوا في الإيمان واستقر الإيمان في قلوبهم ما كان ينبغي أن يكون ذلك شأنهم ، فاستغني عن التنصيص على خطاب البعض لذلك ، وأيضا فإنّه لما ذكر الصفة التي تميز هذا الفريق اكتفى بها عن التنصيص على الموصوف ، مراعاة لما في تعميم الخطاب من فائدة التعريض.
ويرى بعضهم أنّ الخطاب لجميع المؤمنين ، والمعنى عليه : أنّه لم يلحقكم العنت ، لأنّه يعلم أنّه لم يدفعكم إلى ما أنتم فيه إلا حبّكم الإيمان ، ومقامه في قلوبكم ، وكرهكم الكفر ، ونفرتكم من الفسوق والعصيان.
ومعنى تحبيب الإيمان إليهم تقريبه لهم ، وإدخاله في قلوبهم ، ومعنى تزيينه في قلوبهم إقامته فيها ، بحيث لا يفارقها ، وذلك أنّ من أحبّ شيئا فقد يفارقه ، ولكن إذا زيّن له يستمر في الإقامة عليه والمكث فيه.
وقد ذكر الله الإيمان ، وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم ، وهي : الكفر ، والفسوق ، والعصيان. والإيمان اسم لثلاثة أشياء : التصديق بالجنان ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح. فالكفر هو الإنكار ، وهو يقابل الإذعان بالجنان. والفسوق يقابل الإقرار باللسان ، وقد سبق إطلاق الفسق على المجيء بالنبإ الكاذب ، وسيجيء إيراده بهذا المعنى في قوله : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) وذلك يدلّ على استعمال الفسق في الأمر القولي.
وهو في هذا المعنى مناسب لاشتقاق كلمة الفسق ، فإنّها في أصل وضعها تدلّ على الخروج ، مأخوذة من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، فهو يدلّ على الظهور والكذب يظهر ويعرف ، فمن ثمّ صحّ إطلاق الفسق عليه. وأما العصيان فهو ترك العمل. ويرى بعضهم أنّ الكفر : الشرك ، والفسوق : الكبيرة ، والعصيان : الصغيرة.
وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) الإشارة فيه إلى الفريق الذي حبّب إليه الإيمان ، وزيّن في قلبه ، والخطاب فيه للرسول صلىاللهعليهوسلم وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم ووقفوا عند إرشاده ، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم ، فاستحقوا الرشد وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد.
(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)) قوله : (فضلا) إما منصوب على أنه مفعول له ، والعامل فيه فعل مفهوم من قوله (الراشدون) أي وفّقهم الله إلى الرشد ، فضلا ، منه ونعمة ، والعامل فيه (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ) ويكون قوله : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) جملة اعتراضية ، وإما منصوب عل أنّه مصدر من غير لفظ العامل ، وهو الراشدون ،