ومن أراد أن يقف على المكرمتين الأوليين فليطلبهما في كتب التفسير. ولنبدأ بالآية التي معنا.
قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)).
يحذّر الله المؤمنين في هذه الآية ، ويرشدهم إلى وجوب عدم الاعتماد على أقوال الكذبة الفاسقين ، فإنّ الاستماع إليهم يوقع الفتنة بين المؤمنين ، فيفشلوا ، وتذهب ريحهم ، وتتمكن العداوة والبغضاء من نفوسهم ، وحينئذ يعضّون أصابعهم ندما ، ولا ينفع الندم.
وقد يبدو أنّ مقتضى الترتيب أن تؤخّر آية الفاسق بعد آيات المؤمنين ، ولكن لما كان الاستماع إلى الفاسق والاعتماد عليه قد يؤدي إلى فتنة وفساد كبير قدّم الكلام فيه ، اعتناء بأمر المسلمين ، واهتماما بأمر سلامتهم من الفتن ، التي يجرّها الاعتماد على من يوضعون خلال المؤمنين ، يبغونهم الفتنة.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهم (١) بسند جيّد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه ، وأقررت به ، فدعاني إلى الزكاة ، فأقررت بها ، وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي ؛ فأدعوهم إلى الإسلام ؛ وأداء الزكاة ؛ فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وترسل إليّ يا رسول الله رسولا لإبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يبعث إليه ، احتبس عليه الرسول فلم يأت ، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله عزوجل ورسوله ، فدعا بسروات قومه ، فقال لهم : بأنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان وقّت لي وقتا يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله صلىاللهعليهوسلم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت ، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وبعث رسول الله الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وهو أخو عثمان رضي الله عنه لأمه إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق ، فرجع ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : إنّ الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم البعث إلى الحارث ، فأقبل الحارث بأصحابه حتّى استقبله البعث ، وقد فصل عن المدينة ، قالوا : هذا الحارث ، فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟
__________________
(١) انظر المسند للإمام أحمد بن حنبل (٤ / ٢٧٩).