ويتركون ذوي القربى في ضنك وشدة ، فنهاهم الله عن ذلك ، وجعل الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ، ثم أوعد الموصين الذين يخالفون ما أمر به. ويجعلونها في غير المواضع التي أمرهم بها ، أو يوصون بغير معروف ، كأن يعطوا الأغنياء من أقاربهم ، ويتركوا الفقراء ، وعلى هذا يكون الضمير في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) راجعا إلى الحكم الذي علم من الآية السابقة.
أما على القول الأول فالضمير راجع إلى الوصية. وإنما أتى به مذكّرا والوصية مؤنثة نظرا إلى المعنى ، فإنها بمعنى الإيصاء ، كقوله : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [البقرة : ٢٧٥] أي وعظ ، وقد دلت الآية على أن المرء لا يؤخذ بجريرة غيره. فالميت لا يؤخذ ببكاء أهله إلا أن يكون له دخل في البكاء ، كأن يكون أوصى به.
ولذلك لا يعذّب الميت إذا أوصى ورثته بقضاء دينه ، فقصّروا في القضاء ، وهي في معنى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤](مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦](لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦].
هذا وقد طعن قوم في أحكام الوصية والميراث في الشريعة الإسلامية. وقالوا : إنها لا تلين لرغبات المالكين ، وقد تكون هذه الرغبات محترمة ؛ أما أنها لا تلين لرغبات المالكين فلأن الميراث قد فرضت فروضه ، وعيّنت أنصباؤه ، وليس لأحد أن يغيّر فيها ، وقد منعت الوصية للوارث ، فليس لأحد أن يوصي لوارثه.
وأما أن رغبة المالكين قد تكون محترمة فلأنه ربما أراد أن يوصي لوارث فيزيد نصيبه ، لأنه يراه أبرّ به من غيره ، أو لأنه أحوج ، قالوا : والشريعة الإسلامية قد خالفت ما عند الأمم الأخرى من احترام رغبات المالكين. وقد تذرّعت أمة إسلامية بذلك فتركت أحكام الشريعة في الميراث والوصايا ، واستبدلت بها القانون السويسري.
ونحن نرى أنه لا موجب لهذه الغارة على أحكام الشريعة ، فقد نقلنا ما رواه الفخر الرازي من رأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية ، وقد علمنا منه أن رأيه أن الوصية للوارث باقية لم تنسخ ، ولا منافاة بينها وبين الميراث.
فالميراث عطية من الله ، والوصية عطية من المالك للوارث ، فإذا كانت هذه الأمة قد اضطرت لاحترام إرادة المالكين ، ولم تبال بما يصحبها من جور غالبا. ففي الشريعة الإسلامية متسع لهذا. فلنا الأخذ برأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية وهو يجيز الوصية للوارث ، ويحترم رغبة المالكين. فمن شاء أن يوصي لابن بار ، أو وارث أشد حاجة : فله ذلك عنده. وما دام في الشريعة غنى ، فليس لهم أن يستبدلوا بها قانونا آخر. وإن الأخذ بقول من أقوالها مهما كان ضعيفا خير من الخروج عنها جملة.