وابن جرير الطبري ذهب في «تفسيره» (١) إلى هذا القول فقال في تفسير الآية : فرض عليكم أيها المؤمنون الوصيّة (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير : المال (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الذين لا يرثون (بِالْمَعْرُوفِ) وهو الذي أذن الله فيه وأجازه في الوصية ، ما لم يجاوز الثلث ، ولم يتعمّد الموصي ظلم ورثته (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يعني بذلك فرض عليكم هذا وأوجبه وجعله حقا واجبا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
فإن قال قائل : أو فرض على الرجل ذي المال أن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثون؟ قيل : نعم. وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من العلماء منهم : الضحّاك (٢) فقد كان يقول : من مات ولم يوص لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية ، ومنهم مسروق (٣) فقد حضر رجلا فأوصى بأشياء لا تنبغي ، فقال له مسروق : إن الله قسم بينكم فأحسن القسم ، وإنه من يرغب برأيه عن رأي الله يضلّه ، أوص لذي قرابتك ممن لا يرثك ، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
وقد ذهب القائلون بأنها منسوخة إلى أنها تندب ، وتكون في ثلث ماله ، ومعنى قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط ، وقد بيّنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقوله لمن أراد أن يوصي : «الثلث والثلث كثير» (٤) وقد روي عنه عليه صلوات الله أنه قال : «إنّ الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في أعمالكم».
قال الله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)) لما أوجب الله تعالى الوصية وجعلها حقا على المتقين ، توعّد من غيّرها وبدّلها فقال : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي فمن غيّر ما أوصى به الموصي بعد ما سمع الوصية فليس على الموصي إثم ، بل الإثم على مبدّل الوصية ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع للوصية ، عليم بما أوصيتم به ، فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها ، وعلى ذلك يكون المنهي عن التغيير هو : الشاهد ، فلا يكتم شهادة ولا يغيّرها ، والوصي فلا يغير الوصية ، ولا يحوّر فيها. والورثة فلا يمنعون من أوصي لهم من حقّهم.
وقيل : إنه هو الوصي ، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يوصون للأباعد ،
__________________
(١) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (٢ / ٦٨).
(٢) ابن مزاحم البلخي الخراساني ، توفي (١٠٥ ه) مفسر ، كان يؤدب الأطفال انظر الأعلام للزركلي (٣ / ٢١٥).
(٣) ابن الأجدع بن مالك الهمداني توفي (٦٣ ه) تابعي ، شهد حروب الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، انظر الأعلام للزركلي (٧ / ٢١٥).
(٤) رواه البخاري في الصحيح (٢ / ١٠٢) ، ٢٣ ـ كتاب الجنائز ، ٣٤ ـ باب رثاء النبي صلىاللهعليهوسلم سعد بن خولة حديث رقم (١٢٩٥) ، ومسلم في الصحيح (٣ / ١٢٥٠) ، ٢٥ ـ كتاب الوصية ، ١ ـ باب الوصية بالثلث حديث رقم (٥ / ١٦٢٨).