وكان لكل من جهتيه حكم فإنّه إذا أوجب أعظم الأمرين بجهة خصوصه لا يوجب أدونهما بجهة عمومه : مثاله خروج المني من القبل لمّا أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل بخصوص كونه خروج مني لم يوجب أدونهما وهو الوضوء بعموم كونه خارجا ، كذلك زنى المحصن لما أوجب أعظم الحدين وهو الرجم بخصوص كونه زنى محصن لم يوجب أدونهما وهو الجلد بعموم كونه زنى.
أقوال الفقهاء في النفي
علمت أن الحنفية (١) يقولون : إنّ النفي ليس من الحد في شيء ، وإنه مفوّض إلى رأي الإمام ، وحجتهم في ذلك ظاهر الآية الكريمة ، فإنها اقتصرت في مقام البيان على مئة جلدة ، فلو كان النفي مشروعا لكان ذلك نسخا للكتاب ، وجميع ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم في النفي لم يخرج عن كونه من أخبار الآحاد ، وأخبار الآحاد لا تقوى على نسخ الكتاب ، ولو كان النفي حدّا مع الجلد لكان من النبي صلىاللهعليهوسلم توقيف للصحابة ، لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أنّ الجلد هو جميع الحد ، ولوجب أن يكون وروده في وزن ورود نقل الآية وشهرتها. فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة ، بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد.
وقد روى الستة (٢) غير النسائي عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال : «إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير».
قال مالك : الضفير الحبل ، وفي رواية : «فليجلدها ولا تثريب عليها» فظاهر الحديث أنّ الجلد هو تمام الحد ، ولو كان النفي من الحد لذكره النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه غرّب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر ، فلحق بهر قل فقال عمر : لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنى.
وروي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال في البكرين إذا زنيا : إنهما يجلدان ولا ينفيان ، وإنّ نفيهما من الفتنة.
فإذا كانت الأخبار المثبتة للنفي معارضة بما سمعت ، وهي بعد لم تخرج عن كونها أخبار آحاد ، فليس بجائز أن نزيد في حكم الآية بهذه الأخبار ، لأنّه يوجب
__________________
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ٣٨٦).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ٣٢٨) ، ٢٩ ـ كتاب الحدود ، ٦ ـ باب رجم اليهود حديث رقم (٢٠ / ١٧٠٣) ، والبخاري في الصحيح (٨ / ٣٧) ، ٨٧ ـ كتاب الحدود ، ٢١ ـ باب إذا زنت الأمة حديث رقم (٦٨٣٩) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٤ / ٣٠) ، كتاب الحدود ، باب الرجم حديث رقم (١٤٣٣) ، وأبو داود في السنن (٤ / ١٥٥) ، كتاب الحدود ، باب في الأمة تزني حديث رقم (٤٤٦٩) ، وابن ماجه في السنن (٢ / ٨٥٧) ، ٢٠ ـ كتاب الحدود ، ١٤ ـ باب إقامة الحدود حديث رقم (٢٥٦٥).