وقوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) إلخ النفي في مثله يسمّى نفي الشأن ، وهو أبلغ من نفي
الفعل ، لأنّه نفي له بالدليل ، والعمارة للمسجد كما يؤخذ من نصوص اللغة تطلق على
عبادة الله فيه مطلقا ، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة ، وهي خاصّة بالمسجد
الحرام ، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية ، وعلى بنيانه وترميمه. وكلّ ذلك
مراد هنا ، لأنّ اللفظ يدل عليه ، والمقام يقتضيه. والمختار عند الحنفية استعمال
المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير.
وقوله : (مَساجِدَ اللهِ) قرئ بالإفراد ، والمتبادر منه إرادة المسجد الحرام ،
لأنّه المفرد العلم الأكمل الأفضل ، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل.
ومن قرأ بالجمع
فإما أن يراد جميع المساجد ، فيشمل المسجد الحرام أيضا ، الذي هو أشرفها ، وهذا
آكد ، لأنّ طريقه طريق الكناية ، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفى
لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.
وإما أن يراد
المسجد الحرام ، وجمع لأنه قبلة المساجد ، أو لأن كل بقعة منه مسجد.
وقوله : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ) حال من الواو في (يعمروا) وهو قيد للنفي قبله مبين
لعلته. والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به ، ونكتة تقييده بها بيان أنه
كفر صريح معترف به ، لا تمكن المكابرة فيه. والشهادة بالكفر : قيل إنها بإظهار
آثار الشرك من نصب الأوثان حول البيت والعبادة لها. وقيل : بقولهم : لبيك لا شريك
لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. وقيل : بقولهم كفرنا بما جاء به محمد. والظاهر
شمول الشهادة لذلك كله.
والمعنى : ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين ، ولا من شأنهم الذي
يقتضيه شركهم ، أو الذي يشرعه ، أو يرضاه الله منهم ؛ أو يقرهم عليه ، أن يعمروا
مسجد الله الأعظم وبيته المحرم بأي نوع من أنواع العمارة المتقدمة في حال كونهم
كافرين ، شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا ، لأنّ هذا جمع بين الضدين ، فإنّ
عمارة مساجد الله الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية ، بعبادته فيها وحده ، ولا
تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحّد له ، وذلك ضد الكفر به.
وهاهنا مسألتان
:
الأولى : هل يجوز أن يستخدم المسلم الكافر في بناء المساجد ،
أو لا يجوز ، لأنّه من العمارة الحسية الممنوعة ، قيل بالثاني ، وفيه نظر ، لأنّ
الممنوع منها إنما هو الولاية عليها ، والاستقلال بالقيام بمصالحها ، كأن يكون
ناظر المسجد وأوقافه كافرا. وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه ، كنحت
الحجارة ، والبناء والنجارة ، فلا يظهر دخوله في المنع ، ولا فيما ذكر من نفي
الشأن.