الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) اعتراض بين قوله : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) وقوله المفسّر له : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً).
وقوله : (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) المراد به جميع الحرم كما هي عادة القرآن إلا ما استثني ، فالعندية فيه على حذف مضاف ، أي عند قرب المسجد الحرام ، وكان ذلك العهد يوم الحديبية سنة ست.
(فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فمهما يستقم لكم هؤلاء فاستقيموا لهم. أو فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، إذ لا يجوز أن يكون الغدر ونقض العهد من قبلكم.
وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تعليل لوجوب الامتثال ، وتبيين على أنّ مراعاة العهد من باب التقوى ، وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.
ومما يستفاد من هذه الآية : أن العهد المعتد به عند الله وعند الرسول هو عهد غير الناكثين ، وأن من استقام على عهده نعامله بمقتضاه ، وأن مراعاة العهد من تقوى الله التي يرضاها لعباده.
قال الله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))
لما بدأ الله سبحانه وتعالى سورة التوبة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم أراد أن يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون بها في أنّ هذه البراءة غير جائزة ، مع الجواب عنها.
ومما يروى في سبب النزول عن ابن عباس أنه لما أسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم ، فأغلظ علي له القول ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا ، فقال له علي رضي الله عنه : ألكم محاسن؟ فقال : نعم ، إنّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ونسقي الحاج. فأنزل الله عزوجل ردا على العباس : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) إلخ (١) والمراد أنها تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغيره من كبراء المشركين أيضا ، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك لأجل الرد عليه في أيام بدر ، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك.
__________________
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (١٠ / ٦٦).