و (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نحوه وقبله وتلقاؤه ، وفي ذكر المسجد الحرام الذي هو محيط الكعبة دون الكعبة مع أنها القبلة لا المسجد على ما جاء مصرّحا به في الأحاديث إشارة إلى أنه يكفي للبعيد محاذاة جهة القبلة ، قاله الألوسي.
وذكر غيره أن محاذاة الجهة مفهومة من قوله شطر المسجد ، (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) هذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من (فَوَلِّ وَجْهَكَ).
والفائدة من ذكره ـ مع أن خطاب النبي صلىاللهعليهوسلم خطاب لأمته ـ الاهتمام بشأن قبلة الكعبة ، ودفع توهّم أنّ الكعبة قبلة المدينة وحدها ، لأنّ الأمر بالصرف كان فيها ، فربما فهم أن قبلة بيت المقدس لا تزال باقية. فدفعا لهذا الإيهام كان التصريح بعموم الحكم في عموم الأمكنة : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة : ١٤٤] إن اليهود والنصارى بما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل في شأن النبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، والبشارة به ، وأنه سيصلي إلى القبلتين : بيت المقدس ، وقبلة أبيه إبراهيم الذي أمر أن يتّبع ملّته ، ليجزمون أن تحويل القبلة بترك التوجه إلى بيت المقدس والتوجه إلى الكعبة حق لا مرية فيه ، وأن ذلك أمر ربهم ، (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) اعتراض بين الكلامين جيء به لوعد الفريقين ووعيدهم ، وقرأ ابن عامر والكسائي (١) تعلمون بالتاء ، فهو وعد للمؤمنين.
الأحكام
لا خلاف بين المسلمين أنّ استقبال القبلة لا بد منه في صحة الصلاة إلا ما جاء في الخوف والفزع ، وفي صلاة النافلة على الدابة أو السفينة ، فإن القبلة في الحال الأولى جهة أمنه ، وفي الثانية قبلته حيث توجهت به دابته أو سفينته.
إنما الكلام في القبلة ما هي ، أهي عين الكعبة : أم هي جهة الكعبة؟ بالأول قالت الشافعية. وبالثاني قال الحنفية ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الكعبة قبلة من في المسجد ، والمسجد قبلة من خارجه في مكة ، ومكة قبلة سائر الأقطار ، ونسبه الفخر الرازي وأبو حيان إلى المالكية ، وقبل الكلام على مأخذ كلّ مذهب نحبّ أن نقول : إن المسجد الحرام قد أطلق تارة وأريد منه الكعبة فقط ، وتارة أريد به المسجد وحوله معه ، وقد يراد به مكة كلها. وقد يراد مكة مع الحرم حولها بكماله. وقد جاءت نصوص الشرع بهذه الإطلاقات الأربعة.
فمن الأول : قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
__________________
(١) علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي أبو الحسن ، أحد القراء السبعة ، ينتسب إلى مدرسة الكوفة بالنحو ، توفي سنة (١٨٩) انظر الأعلام للزركلي (٤ / ٢٨٣).